أخذ الأجرة على الأذان

أخذ الأجرة على الأذان

أخذ الأجرة على الأذان

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الأذان للصلاة عبادة محضة لله -عز وجل-؛ وكما هو معلوم أن العبادة لابد لقبولها من شرطين أساسيين: أحدهما الإخلاص لله-تعالى-. والثاني: الموافقة للسنة؛ قال العلامة حافظ حكمي-رحمه الله-:

شرط قبول السعي أن يجتمعا *** فيه إصابـة وإخلاص معا

لله رب العـرش لا ســواه *** موافق الشرع الذي ارتضاه

وكلمـا خالـف للــوحيين *** فإنــه رد بغـير مــين

وعلى هذا فإنه ينبغي أن يكون المؤذن للصلاة لا يبتغي إلا وجه الله -عز وجل-، فلا ينتظر من أحد جزاءا ولا شكوراً، حتى يؤجر على أذانه، وأن يكون لأذانه تأثيراً على قلوب السامعين، ويحصد تلك الفضائل العظيمة التي جعلت للمؤذنين الذين يؤذنون ابتغاء مرضاة الله.

ولكن هنا ينبغي أن تتطرق لمسألة مهمة جداً، وهي لو أن مؤذناً أخذ الأجر على الأذان  والإقامة، فما حكم الشرع في ذلك؟ نجيب على هذا السؤال بما قاله أهل العلم في هذه المسألة، فنقول: اختلف الفقهاء في هذه المسألة:

فمنهم من لم يجز ذلك، مستدلاً بقوله تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} سورة الشورى (23). وجه الدلالة: أن المؤذن خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، فينبغي أن كون مثله في عدم أخذ الأجرة على الأعمال.

وكذلك بحديث عثمان بن أبي العاص-رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)1. وأيضاً بما روي أن رجلاً قال لابن عمر-رضي الله عنهما-: يا أبا عبد الرحمن إني أحبك في الله، فقال له ابن عمر: وأنا أبغضك في الله، قال: لِمَ؟ قال: إنك تبغي في أذانك وتأخذ عليه أجر2. وذكروا لهذا القول تعليلات عدة؛ منها: أن الأذان قربة لفاعله، لا يصح إلا من مسلم، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه كما هو في الصوم والصلاة3. ولأن الاستئجار على الأذان والإقامة سبب لتنفير الناس والرغبة عن هذه الطاعات؛ لأن ثقل الأجر يمنعهم عن ذلك4.

وذهب بعضهم إلى الجواز، مستدلين بحديث أبي محذورة-رضي الله عنه– وتعليم النبي-صلى الله عليه وسلم- الأذان له، وفيه: … ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة…5. ولأن الأذان فعل يجوز التبرع به عن الغير، فلا يكون كونه قربة مانعاً من الإجارة قياساً على الحج عن الغير وبناء المساجد أو كتب المصاحف، والسعاية على الزكاة6. ولأن الأذان عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال7.

وذهب البعض إلى التفصيل في هذه المسألة، فأجازوا أخذ الأجرة للحاجة، وبأن لا يشترط ذلك، واستدلوا  بحديث عثمان بن أبي العاص- رضي الله عنه-، وعللوا لجوازه في حالة الحاجة؛ بقلة من يقوم بالأذان حسبة لله –تعالى-، فبمراعاته للأوقات والاشتغال به يقلّ اكتسابه عما يكفيه لنفسه وعياله، فيأخذ الأجرة لئلا يمنعه الاكتساب عن إقامة هذه الوظيفة الشريفة8.

ولعل سبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة يرجع إلى ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: ومأخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع، أن هذه الأعمال يختصّ أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن، والحديث، والفقه، والإمامة، والأذان، لا يجوز أن يفعله كافر، ولا يفعله إلا مسلم، بخلاف النفع الذي يفعله المسلم والكافر: كالبناء والخياط، والنسج، ونحو ذلك، وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنه يبقى مستحقاً بالعوض، معمولاً لأجله، والعمل إذا عمل للعوض لم يبق عبادة: كالصناعات التى تعمل بالأجرة. فمن قال: لا يجوز الاستئجار على هذه الأعمال، قال: إنه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله، كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله، والاستئجار يخرجها عن ذلك.

ومن جوز ذلك، قال: إنه نفع يصل إلى المستأجر، فجاز أخذ الأجرة عليه؛ كسائر المنافع. قال وإذا كانت لا عبادة في هذه الحال، لا تقع على وجه العبادة، فيجوز إيقاعها على وجه العبادة، وغير وجه العبادة، لما فيها من النفع.

ومن فرق بين المحتاج وغيره -وهو أقرب- قال: المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة فإن الكسب على العيال واجب أيضاً، فيؤدي الواجبات بهذا بخلاف الغني لأنه لا يحتاج الكسب، فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله، بل كان الله قد أغناه، وهذا فرض على الكفاية: كان هو مخاطباً به، وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجباً عليه عين9.

ولعل الراجح- والعلم عن الله- هو قول من قال بأنه لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة إلا في حالة الحاجة، ومن غير شرط، خصوصاً في هذه العصور المتأخرة التي كثر فيها اشتغال الناس بطلب معاشهم، فغالبهم يمضي الساعات في ذلك، وإذا لم يؤخذ بهذا القول فقد يؤدي إلى تعطيل كثير من المساجد من هذه الشعيرة العظيمة. وبهذا القول يتم الجمع بين الحديثين الواردين في هذه المسألة وهما محل النزاع- أعني- حديث عثمان بن أبي العاص، الدال على المنع، وحديث أبي محذورة الذي يدل على الجواز10. ولكن لابد من التنبيه هنا على أنه ينبغي للمؤذن أن يتق الله- تعالى- في هذه الشعيرة العظيمة، إذا تولاها فلا يجعلها مصدر كسب فحسب ثم هو ينسى أن الأصل فيها أنها عبادة لله؛ لأننا نرى بعض المؤذنين- هدانا الله وإياهم- يتولى هذا الأمر وظيفياً وعملاً يوليه غيره من الناس، والله المستعان11. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 – أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم(16378) وأبو داود في كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين( سنن أبي داود(1/260 برقم(531)). وغيرهما.

2 – أخرجه عبد الرزاق في المصنف(1/482 برقم(1853)، وابن أبي شيبة(1/207 برقم(2372).

3 – المبسوط(1/140) وبدائع الصنائع(1/152).

4 – بدائع الصنائع(6/14).

5 – أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم(15454) والنسائي في كتاب الأذان باب كيف الأذان( سنن النسائي2/332،333 رقم(631).

6 –  الذخيرة (2/66).

7 – المهذب مع المجموع(3/132) والمغني(2/70).

8 – ارجع المبسوط(1/140) ورد المحتار(1/392).

9 مجموع الفتاوى(30/206- 207).

10 – انظر نيل الأوطار(2/60).

11 –  راجع : " أحكام الأذان والنداء والإقامة، إعداد سامي بن فراج الحازمي صـ(296).