التبليغ خلف الإمام

التبليغ خلف الإمام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمسألة التبليغ خلف الإمام مسألة ليست وليدة يومنا، بل كان الناس في العصور المتقدمة أحوج إليها؛ لعدم وجود المكبرات الصوتية الموجودة اليوم.

ولوجود الوسائل الحديثة المكبرة للصوت يمكن أن نتساءل عن بقاء حكمها مع انتفاء الحاجة إليها؛ لذلك عرضنا هذه المسألة في هذه الوريقات؛ ليتضح لنا حكمها، وأقوال الفقهاء فيها، ونبدأ بتعريف التبليغ، ثم حكمه ومشروعيته – كما سيأتي -:

تعريفه:

هو: أن يرفع أحد المأمومين أو الإمام صوته ليسمع الباقين صوت الإمام([1]).

حكمه ومشروعيته:

لا بدَّ في الحكم عليه من النظر إلى أمرين: الحاجة إليه – وهي مراعاة سماع المأمومين، وعدم سماعهم -، وقصد المبلِّغ، كما سيأتي بيانه:

أولاً: من حيث الحاجة إليه: اتفق الفقهاء على أنه يسن (وعند المالكية: يندب) للإمام الجهر بقدر الحاجة بالتكبير، والتسميع، والسلام؛ لإعلام من خلفه([2]لكن قال الحنفية: وإذا جهر الإمام فوق الحاجة فقد أساء، والإساءة دون الكراهة([3]).

قال النووي: يستحب للإمام أن يجهر بتكبيرة الإحرام، وبتكبيرات الانتقالات؛ ليسمع المأمومين؛ فيعلموا صلاته([4]). وقال: يسن للإمام الجهر بتكبيرات الصلاة كلها، وبقوله: سمع الله لمن حمده؛ ليعلم المأمومون انتقاله، فإن كان ضعيف الصوت لمرض وغيره فالسنة: أن يجهر المؤذن أو غيره من المأمومين جهراً يسمع الناس، وهذا لا خلاف فيه، ودليلنا من السنة حديث سعيد بن الحارث – رضي الله عنه – قال: (صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين، حتى قضى صلاته على ذلك، وقال: إني رأيت رسول الله  هكذا يصلي([5]))، وعن جابر – رضي الله عنه – قال: (اشتكى رسول الله  فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبوبكر – رضي الله تعالى عنه – يسمع الناس تكبيره) رواه مسلم([6])، وفي رواية لمسلم أيضاً([7]): (صلى بنا رسول الله  الظهر وأبوبكر – رضي الله تعالى عنه – خلفه، فإذا كبر، كبر أبو بكر؛ يُسمعنا)، وعن عائشة – رضي الله عنها – في قصة مرض رسول الله  قالت : (…فأتي برسول الله  حتى أجلس إلى جنبه [يعني أبا بكر – رضي الله عنه -] وكان النبي  يصلي بالناس، وأبو بكر يسمعهم التكبير) رواه مسلم([8]) بلفظه والبخاري بمعناه([9]).([10]) واتفق الأئمة الأربعة على أن التبليغ عند عدم الحاجة إليه – بأن يبلغهم صوت الإمام – بدعة منكرة أي مكروهة([11]). وأما غير الإمام فالسنة الإسرار بالتكبير سواء المأموم والمنفرد، -وأدنى الإسرار أن يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع، ولا عارض عنده من لغط وغيره –([12]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولا ريب أن التبليغ لغير حاجة بدعة، ومن اعتقده قربة مطلقة فلا ريب أنه إما جاهل، وإما معاند، وإلا فجميع العلماء من الطوائف قد ذكروا ذلك فى كتبهم حتى فى المختصرات، قالوا: ولا يجهر بشىء من التكبير إلا أن يكون إماماً، ومن أصر على اعتقاد كونه قربة فإنه يعزَّر على ذلك لمخالفته الإجماع، هذا أقل أحواله، -والله أعلم”([13]).

وقال المالكية: يندب لكل مصلٍّ الجهر بتكبيرة الإحرام([14]).

ثانياًً: من حيث القصد: – إما أن يكون التبليغ في تكبيرة الإحرام، أو في سائر تكبيرات الانتقالات، والتسميع، والتحميد، والتسليم -.

الحالة الأولى: – أن يكون التبليغ في تكبيرة الإحرام – فيجب أن يقصد المبلِّغ – سواء أكان إماماً أم غيره – الإحرام للصلاة بتكبيرة الإحرام، فلو قصد الإعلام فقط؛ لم تنعقد صلاته، وكذا لا تنعقد عند الشافعية إذا أطلق، فلم يقصد شيئاً([15])، فلا صلاة له، ولا لمن أخذ بقوله في هذه الحالة؛ لأنه اقتدى بمن ليس في صلاة – كما في فتاوى الغزي([16])-.

أما إذا قصد التبليغ مع الإحرام – أي نوى الدخول في الصلاة، ونوى التبليغ – فإنه لا يضر.

الحالة الثانية: – أن يكون في غير تكبيرة الإحرام من تكبيرة الانتقال، والتسميع، والتحميد: فإن قصد بها التبليغ فقط فلا تبطل صلاته عند الجمهور، وإنما يفوته الثواب([17])، ولا تفسد صلاة من أخذ بقوله؛ لأنه مقتدٍ بمن في الصلاة بخلاف الأولى([18]).

لكن قال الحنفية: إن قصد بذلك مجرد إعجاب الناس بتبليغه فسدت صلاته على الراجح، وفرق الشافعية بين أن يكون عامياً أو غير عامي: فإن كان عامياً، وقصد مجرد التبليغ، أو لم يقصد شيئاً؛ فلا تبطل صلاته، بخلاف غير العامي فإنها في هذه الحالة تبطل صلاته([19]).

وخلاصة القول:

أن التبليغ بعد الإمام إذا كان لغير حاجة بأن يكون المأمومون يسمعون صوت الإمام واضحاً فهو بدعة كما تقدم بيان ذلك عن العلماء، وإن لم يسمعوا فهو مستحب كما ورد ذلك في الأحاديث السابقة، وعليه فإن ما يفعله بعض المأمومين اليوم من رفع أصواتهم بالتبليغ مع وجود مكبرات الصوت التي تُسمع صوت الإمام للقريب والبعيد من البدع التي ينبغي تركها، والاكتفاء بالمكبر إذ أنه قد قام بالمقصود، وتبقى حالات التبليغ مقتصرة على ما إذا عدمت مكبرات الصوت، أو حصل خلل أو انقطاع التيار الكهربائي مع عدم بلوغ صوت الإمام إلى كل المأمومين، فحينئذ يشرع التبليغ ورفع الصوت بالتكبيرات، أما مع عدم الحاجة إلى ذلك، واعتقاد أن ذلك قربة؛ فهذا من البدع التي ما أذن الله بها.

فينبغي للمسلمين التنبه إلى هذا الأمر، والله المستعان.

والحمد لله رب العالمين.


[1] – الفقه على المذاهب الأربعة: ط/دار الكتب العلمية: (1/252).

[2] – الفقه الإسلامي وأدلته: ط/دار الفكر:(2/914).

[3] – رد المحتار: ط/ دار إحياء التراث العربي: (1/296).

[4] – المجموع شرح المهذب: ط/ دار الفكر: (3/294).

[5] – رواه البخاري: (1/293/791).

[6] – (1/309/413).

[7] – (1/309/413).

[8] – مسلم: (1/311/418).

[9] – المجموع: (3/398).

[10] – انظر المغني لابن قدامة: (1/406).

[11] – الفقه الإسلامي: (2/914) وحاشية الطحاوي على المراقي(2/256).

[12] – الممجموع: (3/295).

[13] – مجموع الفتاوى: (23/402).

[14] – الفقه الإسلامي: (2/914).

[15] – الموضع السابق: (2/914).

[16] – حاشية الطحاو ي: (2/256).

[17] – الفقه على المذاهب الأربعة: (1/252).

[18] – حاشية الطحاو ي: (2/256).

[19] – المصدر السابق: (1/253).