إدراك الجماعة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله،، أما بعد:
فإن لصلاة الجماعة فضيلة عظيمة على صلاة الإنسان منفرداً، وذلك أن صلاة الفرد في جماعة تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة، ولهذا فحري بكل مؤمن يريد الدرجات العليا يوم القيامة أن يحرص على الصلاة والصلاة في الجماعة، لاسيما تكبيرة الإحرام كما قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق". وقدحرص السلف على هذه الفريضة أيما حرص حتى أن أحدهم يصلي الستين سنة في جماعة لا تفوته تكبيرة الإحرام، واعتنى العلماء كذلك بتبيان أحكامها، وما يتعلق بها بياناً شافياً. ومن ذلك: مسألة إدراك الجماعة مع الإمام.. متى يدرك المأموم الركعة إذا سبقه الإمام إلى الصلاة؟ هل يدركها بركعة؟ أم بأقل منها؟
المسألة فيها قولان:
الأول: أنها تدرك بإدراك ركعة. وهو قول المالكية والغزالي من أصحاب الشافعي. ورواية عن الإمام أحمد، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، والسعدي.
وأدلتهم على ذلك:
الدليل الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة).1
الدليل الثاني: عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد أدرك الصلاة).2
القول الثاني: أنها تدرك بتكبيرة قبل سلام الإمام..
وهو مذهب الجمهور، الأحناف، والشافعية، والرواية المشهورة عن أحمد بن حنبل، اختارها أكثر أصحابه.3
ودليلهم: ما ثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا).4
وجه الاستدلال: أن من أدرك الإمام ساجداً أو جالساً في التشهد الأخير يسمى مدركاً فيتم ما فاته فيكون من كبر قبل سلام الإمام مدركاً للجماعة.
وعلل عبد الرحمن بن أبي عمر ابن قدامة هذا القول بتعليلين:
1. أنه أدرك جزءاً من صلاة الإمام فأشبه ما لو أدرك ركعة.
2. أنه أدرك جزءاً من صلاة الإمام، فأحرم معه لزمه أن ينوي الصفة التي هو عليها وهو: كونه مأموماً فينبغي أن يدرك فضل الجماعة.5
ورجح ابن حجر العسقلاني قول الجمهور كما قال عند شرحه لحديث: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا..) ما نصه: (واستدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة؛ لقوله: (فما أدركتم فصلوا) ولم يفصل بين القليل والكثير، وهذا قول الجمهور. وقيل لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة؛ للحديث السابق: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك) وقياساً على الجمعة، وقد قدمنا الجواب عنه في موضعه وأنه ورد في الأوقات، وأن في الجمعة حديثا خاصاً بها).6
وقد ذهب إلى القول الأول -وهو أنها تدرك بركعة- من المعاصرين: الشيخ ابن باز وابن عثيمين.. وقد سئل ابن باز -رحمه الله- السؤال التالي:
هل الجماعة تدرك بإدراك السلام مع الإمام أم لا تدرك إلا بإدراك ركعة؟ وإذا دخل جماعة والإمام في التشهد الأخير هل الأفضل لهم الدخول مع الإمام أم ينتظرون سلامه ويصلون جماعة؟
فأجاب: لا تدرك الجماعة إلا بإدراك ركعة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) خرجه مسلم في صحيحه، لكن من كان له عذر شرعي يحصل له فضل الجماعة وإن لم يدركها مع الإمام؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً رواه البخاري في الصحيح، ولقوله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك: (إن في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم حبسهم العذر) وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر) متفق عليه. ومتى أدرك جماعة الإمام في التشهد الأخير فدخولهم معه أفضل، لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) متفق عليه، ولو صلوا جماعة وحدهم فلا حرج -إن شاء الله-).7
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً.