ليلني منكم أولوا الأحلام

ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى

 

ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى

 

الحمد لله الذي خلق الإنسان من نطفة من ماء مهين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.. أما بعد:

فإن التفقه في مسائل الدين من أعظم ما يهم المرء المسلم؛ ذلك أن الله -تعالى- مدح أهل العلم والفقه وذم الجهل والجاهلين بأحكام شرعه فقال: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}( سورة الزمر:9)، وكل إنسان ينبغي له أن يرقى إلى أقصى ما يستطيع من درجات الرفعة والكمال. وسنأخذ حكماً من أحكام ديننا الحنيف فيما يتعلق بالإمامة، ألا وهو مَن يصلي وراء الأمام مباشرة، وهو معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليلني منكم أولوا الأحلام والنُّهى) كما سيأتي ذكره في الحديث كاملاً.. ومعنى ليلني أي ليصلي ورائي ويقترب مني، وكلمة (يلني) بحذف الياء؛ لأنها مجزومة كونها فعل أمر معتل حذفت الياء منه، وقد رويت بالياء (ليليني) والصحيح الحذف، بل ذكر الطيـبي أن إثباتها غلط(1)،  أولوا الأحلام: أي البالغون، وقيل: أهل العقول الرزينة، والنُّهى: هي العقول، وسميت العقول نُهى لأنها تنهى العبد عن مقارفة القبائح.2

وهذا نص الحديث الذي وردت فيه الجملة السابقة:

عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً. رواه مسلم.

 قال النووي عند شرحه لهذا الحديث:

(في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام؛ لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن لـه غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظونـها وينقلوها، ويعلموها الناس؛ وليقتدي بأفعالهم مَن وراءهم. ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يُقدّم أهل الفضل في كل مجمع إلى الأمام وكبير المجلس،كمجالس العلم والقضاء والذكر والمشاورة، ومواقف القتال وإمامة الصلاة والتدريس والإفتاء وإسماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك).3

فإذا احتاج الإمام أو المأموم الكبير العاقل أن يخرج الولد الصغير أو الجاهل الذي لا يعلم أحكام الصلاة أو يؤخره عن اليمين أو عن اليسار من الصف جاز له ذلك؛ اتباعاً لهذا الإرشاد النبوي، بل قد يكون ذلك مستحباً؛ عملاً بهذا الحديث؛ ولما روى النسائي في المجتبى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه عن قيس بن عُباد قال: بينما أنا بالمدينة في المسجد في الصف المقدم قائم أصلي فجَبَذَني رجلٌ من خلفي جَبْذَة فنحّاني، وقام مقامي. قال: فو الله ما عقلت صلاتي، فلما انصرف فإذا هو أُبَيّ بن كعب. فقال: يا فتى لا يسؤك الله، إن هذا عهد من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا أن نَلِيَه. ثم استقبل القبلة فقال: هَلَك أهل العقدة ورب الكعبة ثلاثاً. ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلوا. قال: قلت: من تعني بـهذا؟ قال: الأمراء!.4

فدلت الأدلة على أن الذي يلي الإمام هم الكبار في السن من ذوي الأحلام والنهى، وليس معنى هذا تقديم كل كبير ولو كان جاهلاً أو عامياً على البالغ العاقل الذي يحفظ القرآن ويعرف أحكام الصلاة، وإنما النظر في هذا إلى أنه إذا اجتمع في الرجل معرفة أحكام الصلاة وإتقان التلاوة مع كبر سنه فهو أولى، أما إن كان الكبير عامياً لا يعرف أحكام الصلاة ويخبط في القراءة فتقديم الشاب العاقل عليه أولى لأن العبرة بمعرفة أحكام الصلاة، حتى يخلف الإمام لو حصل خلل في صلاته.. فينبغي النظر إلى هذا الأمر وتقديم من هم من ذوي العقول والمعرفة والفهم على غيرهم خلف الإمام والقرب منه، وأن ينبه على هذا حتى يعلم الناس هذا الحكم الشرعي.. وفي بعض المساجد نرى من يصلي وراء الإمام مَن ليس بأهل لذلك كأن يكون صغيراً، أو عامياً جاهلاً، في حين يتأخر الكبار وأهل العلم ويصلون بعيداً عن الإمام! وهذا مخالف لما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي التنبه لهذا الحكم والتنبيه عليه..

نسأل الله العلي الكبير أن يصلح أحوالنا وأن يفقهنا في دينه.. إنه على كل شيء قدير.


 


1– انظر تحفة الأحوذي  بشرح جامع الترمذي، عند شرح حديث رقم (228).

2– انظر شرح صحيح مسلم للنووي عند حديث رقم (432).

3– المصدر السابق.

4– رواه أحمد والنسائي وصححه الالباني.