تقدم المأموم

وقوف المأموم أمام الإمام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

هل تصح صلاة المأموم إذا صلى أمام الإمام؟

انقسم العلماءُ في ذلك على ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: لا تصحُّ صلاتُهُ مطلقاً:

وهو قول الأحناف، ومذهب الشافعي في الجديد، والحنابلة، وذكروا سبب بطلان الصلاة في الآتي: لأنه إذا تقدم على الإمام اشتبه عليه حالة افتتاحه، واحتاج إلى النظر وراءه في كل وقت ليقتدي به، فلهذا لا يجوز، وقالوا أيضاً: أن ذلك لم يُنقلْ عن النبي ، ولا هُو في معنى المنقول، فلم يصحَّ.

المذهب الثاني: أنَّ صلاته صحيحةٌ مع العذرِ دُونَ غيرِهِ:

وهو قولٌ في مذهب الحنابلة اختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، وعلل صحة الصلاة مع العذر بقوله: (بأنَّ ترْكَ التقدُّم على الإمام غايتُهُ أن يكون واجباً من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعذر، وإن كانت واجبة في أصل الصلاة فالواجب في الجماعة أولى بالسقوط..)1.

المذهب الثالث: تصح صلاته مطلقاً مع الكراهة: فإن كانت هناك ضرورة فإنها صحيحة بدون كراهة، وهو قول الإمام مالك، وقد علل المالكية ذلك: بأن الوقوف أمام الإمام لا يمنع الاقتداء، كالصلاة خلفه.2

والراجح هو االمذهب الثاني؛ لقوة ما علل به، وهو اختيار ابن تيمية – رحمه الله – كما سبق أن ذكرنا، وقد نقلنا هنا كلام ابن تيمية بحروفه. فقد سُئل – رحمه الله – بهذا السؤال:

هل تجزئ الصلاة قُدّام الإمام أم لا، أو خلفه في المسجد وبينهما حائل أم لا؟

فأجاب بقوله: (الحمد لله، أما صلاة المأموم قدام الإمام ففيها ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنها تصح مطلقاً، وإن قيل: إنها تكره، وهذا القول هو المشهور من مذهب مالك، والقول القديم للشافعي.

والثاني: أنها لا تصح مطلقاً كمذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد؛ في المشهور من مذهبهما.

والثالث: أنها تصح مع العذر دون غيره مثل ما إذا كان زحمة، فلم يمكنه أن يصلي الجمعة، أو الجنازة؛ إلا قدام الإمام، فتكون صلاته قدام الإمام خيراً له من تركه للصلاة، وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قولٌ في مذهب أحمد وغيره، وهو أعدلُ الأقوال، وأرجحُها؛ وذلك لأن ترك التقدم على الإمام غايته أن يكون واجباً مِن واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعجز، وإن كانت واجبة في أصل الصلاة فالواجب في الجماعة أولى بالسقوط؛ ولهذا يسقط عن المصلي ما يعجز عنه من القيام، والقراءة، واللباس، والطهارة وغير ذلك، وأما الجماعة فإنه يجلس في الأوتار لمتابعة الإمام، ولو فعل ذلك مفرداً عمداً بطلت صلاته، وإن أدركه ساجداً أو قاعداً كبر وسجد معه، وقعد معه لأجل المتابعة، مع أنه لا يُعتدُّ له بذلك، ويسجد لسهو الإمام وإنْ كان هو لم يَسْهُ، وأيضاً ففي صلاة الخوف لا يستقبل القبلة، ويعمل العمل الكثير، ويفارق الإمام قبل السلام، ويقضي الركعة الأولى قبل سلام الإمام، وغير ذلك مما يفعله لأجل الجماعة، ولو فعله لغير عُذْرٍ بطلت صلاتُهُ، وأبلغ من ذلك أن مذهب أكثر البصريين، وأكثر أهل الحديث: أن الإمام الراتب إذا صلى جالساً صلى المأمومون جلوساً؛ لأجل متابعته، فيتركون القيام الواجب لأجل المتابعة، كما استفاضت السُّننُ عن النبي  أنه قال: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون3. والناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: قيل: لا يؤم القاعد القائم وأن ذلك من خصائص النبي  كقول مالك ومحمد بن الحسن، وقيل: بل يؤمهم ويقومون، وأن الأمر بالقعود منسوخ كقول أبي حنيفة والشافعي، وقيل: بل ذلك محكم، وقد فعله غير واحد من الصحابة بعد موت النبي  كأسيد بن حضير وغيره، وهذا مذهب حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، وعلى هذا فلو صلوا قياماً ففي صحة صلاتهم قولان، والمقصود هنا: أن الجماعة تفعل بحسب الإمكان، فإذا كان المأموم لا يمكنه الائتمام بإمامه إلا قدامه كان غاية ما في هذا الباب أنه قد ترك الموقف لأجل الجماعة، وهذا أخفُّ من غيره، ومثل هذا أنه منهي عن الصلاة خلف الصف وحده، فلو لم يجد مَنْ يصّافه، ولم يجذب أحداً يصلي معه؛ صلى وحده خلف الصف، ولم يدع الجماعة، كما أن المرأة إذا لم تجد امرأة تصافها فإنها تقف وحدها خلف الصف باتفاق الأئمة، وهو إنما أمر بالمصافة مع الإمكان، لا عند العجز عن المصافة، والله أعلم.4

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم


1– مجموع الفتاوى (23/404).

2– انظر أحكام الإمامة والائتمام للمنيف ص268-269.

3– رواه البخاري ومسلم.

4– الفتاوى الكبرى (2/331-333) تحقيق: محمد عطا، ومصطفى عطا، ط: دار الريان للتراث 1408هـ.