الاقتداء بإمام المذياع

 

 

 

 

الاقتداء بإمام المذياع

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

فقد تطور العلم الحديث تطوراً بلغ مبلغاً لم يبلغه من قبل، وقد اكتشف الناس كثيراً من أمور الحياة التي قربت البعيد ويسرت الصعب، وهذا كله من فضل الله على الناس حيث علمهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم، ومن تلك الأمور التي اكتشفها العلم الإذاعة والتي بها يستطيع الإنسان أن ينقل صوته إلى أنحاء العالم في لمح البصر..

وقد استفاد المسلمون من هذه الإذاعة استفادة بالغة حيث نقلت الدروس العلمية عن طريقها والمحاضرات الدعوية والتربوية والخطب المنبرية والقرآن الكريم، وغير ذلك، كما كان للصلاة حضور واضح في نقل صوت الأئمة من المساجد الكبيرة في العواصم العديدة،

خاصة المسجدين الشريفين: المسجد الحرام والمسجد النبوي، فيستمع المسلم لصوت الإمام بل ويرى صورته في التلفاز كأنه حاضر بين يديه، في أقطار الأرض، وعلى هذا فهل يجوز للمسلم أن يصلي خلف الإمام الذي يسمعه في المذياع أو الذي يراه في التلفاز؟ وهل تلك الصلاة صحيحة؟

وكون المسألة من المسائل المعاصرة التي لم يسبق أن تطرق لها علماء المسلمين السابقين فسوف نذكر بعض فتاوى وأقوال العلماء المعاصرين..

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله، السؤال الآتي:

ما حكم الصلاة مع الراديو أو آلة من الآلات المتصلة بالإذاعة التي يسمعونها من الراديو، وهم في أبعد مكان؟

فكان الجواب: إن نصوص الكتاب والسنة قد دلت على وجوب أداء الصلوات الخمس في جماعة، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}.. الآية، فأمر سبحانه بأداء فريضة الصلاة جماعة في أحرج الأوقات، ورخص في ترك بعض أركانها محافظة على صلاتها في جماعة مع مصلحة الجهاد، فدل ذلك على وجوب الجماعة، ودل على وجوبها جماعة في المسجد حديث: همَّ النبي   أن يحرق على قوم يتخلفون عن أدائها جماعة في بيوتهم..، لكن حال دون التنفيذ ما في البيوت من النساء والذرية،ممن لا يجب عليهم حضور الجماعة بالمسجد، وإذا ينبغي عمارة المسجد بها،

ويؤيد ذلك عموم قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (17-18) سورة التوبة،

وعموم قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} الآيتين(36-37) سورة النور، فبين سبحانه أن عمارة المساجد ببنائها وإعلاء شأنها وذكر الله فيها عموما، وأداء الصلوات فيها خصوصا من سمات المؤمنين، وحثهم على ذلك ووعدهم عليه الثواب الجزيل. وذكر النبي   من السبعة الذين يظلهم الله في ظله

يوم لا ظل إلا ظله: الرجل المعلق قلبه بالمساجد.. إلى آخر ما ذكرت اللجنة من أحاديث في هذا.. ثم قالت في فتواها:

إلى غير ذلك مما في معنى هذه الأحاديث، فإنها تدل على أنه ليس المقصود الأمر بمطلق أداء الصلاة جماعة فقط، بل الأمر بأدائها جماعة في المسجد إقامة لهذه الشعيرة في بيوت الله، وتنزها عن صفات المنافقين في التخلف عنها، ورجاء المثوبة والأجر،والمغفرة من الذنوب، ورفع الدرجات بما يمشيه إلى بيت الله تعالى من الخطوات، وتعرضا لدعوات الملائكة له بالرحمة والمغفرة ما دام في مصلاه لا يمنعه من انصرافه منها إلا انتظاره للصلاة. ومن صلى في بيته أو مزرعته أو متجره جماعة مع إمام المسجد على صوت المذياع مثلا وتخلف عن شهود الجماعة في بيت الله دل ذلك على فتوره عن امتثاله أوامر الشريعة، وصدوده وعزوف نفسه عما يضاعف له به الحسنات، ويرفعه الله به إلى أعلى الدرجات، ويغفر له به السيئات، وخالف الأوامر الدالة على وجوب أدائها في المساجد،واستحق الوعيد الذي تُوعِّد به المتخلفون عن شهود الجماعة في المساجد.

ثم إنه قد تقع صلاته على أحوال لا تصح معها صلاته، عند جماعة من الفقهاء، مثل كونه منفردا خلف الصف مع إمكان دخوله في صف لو كان بالمسجد، وكونه أَمَام الإمام، وقد يعرض ما لا يمكنه معه الاقتداء بالإمام كخلل في جهاز الاستقبال أو الإرسال، أو انقطع التيار الكهربائي، وهو في أمن من هذا لو صلى في مكان يرى فيه الإمام والمأمومين.

بهذا نرى أنه لا يجوز أن يصلي في بيته منفردا أو في جماعة مستقلة عن جماعة المسجد أو مقتدٍ بإمام المسجد عن طريق الإذاعة”.1

وجاء في فتاوى الأزهر في ربيع الثاني عام 1369 هجرية، الموافق فبراير 1950 م السؤال الآتي:

يوجد بالناحية جامع بدون إمام ولا مقرئ. فهل يجوز سماع القرآن والخطبة من جهاز الراديو وتكون الصلاة بعد الخطبة؟

فكان الجواب:

إنه ورد في الحديث كما رواه البخاري، أن النبي   قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولم يصل عليه السلام الجمعة إلا في جماعة وكان يخطب خطبتين يجلس بينهما كما رواه البخاري ومسلم، ولذا انعقد الإجماع على أنها لا تصح إلا بجماعة يؤمهم أحدهم كما ذكره الإمام النووي في المجموع، وقال ابن قدامة في المغنى: “إن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها”،وانعقد إجماع الأئمة الأربعة على ذلك، وعلى هذا لا تصح صلاة الجمعة في هذه القرية المسئول عنها بدون إمام ولا خطبة ولا يكفي في ذلك سماع الخطبة وحركات الإمام من المذياع، واللّه أعلم.2

وجاء في فتاوى الأزهر أيضاً السؤال الآتي:

من وزارة التعليم العالي -المراكز الخارجية- الإدارة العامة للتمثيل الثقافي بكتابها المتضمن أن الإدارة تلقت من السيد مدير المركز الثقافي العربي بنواكشوط أن الكثير من رجال موريتانيا العاملين في شتى المجالات الثقافية الذين تقدمت بهم السن لا يستطيعون الذهاب إلى المساجد ويسألون عن إمكانية متابعة صلاة الجماعة بالمسجد (الجمعة وغيرها) عن طريق المذياع عبر الأثير؟ وإذا كانت هذه المتابعة جائزة شرعا فعلى أي مذهب؟ وعندئذ فهل الأفضل الصلاة بهذه الطريقة أم الصلاة الفردية.

وتطلب الإدارة العامة بيان حكم الشرع في هذا الموضوع حتى يمكنها الرد على السيد مدير المركز الثقافي ليتولى بدوره إفادة المستفتين في هذا الموضوع..

الجواب:

نفيد أن صلاة الجمعة مع المذياع في غير المسجد الذي تذاع منه هذه الصلاة غير صحيحة شرعا باتفاق الأئمة الأربعة؛ لاشتراط المسجد لصحة صلاة الجمعة عندهم جميعاً، كل بشروطه الخاصة في المسجد الذي تجوز إقامة صلاة الجمعة فيه.

أما صلاة الجماعة في الفروض الخمسة غير الجمعة فأصح الأقوال في مذهب الشافعية أنها فرض كفاية، ومذهب الحنابلة أنها فرض عين على كل شخص مسلم في كل صلاة من الصلوات الخمس، وعند الحنفية واجب والمشهور، في مذهب المالكية أنها سنة مؤكدة، ومن شروط صحة الاقتداء في هذه الصلوات تمكن المأموم من ضبط أفعال إمامه برؤية أو سماع ولو بمبلغ -فمتى تمكن المأموم من ضبط أفعال إمامه صحت صلاته إلا إذا اختلف المأموم عن محل صلاة إمامه، فإن صلاة المأموم تبطل عند فقهاء المذهب الحنفي حيث يشترطون اتحاد مكان الإمام والمأموم بألا يكون بينهما فاصل كنهر تجرى فيه السفن -أو طريق نافذ يمر فيه الناس أو صف من النساء يسبق المأموم. ويرى فقهاء الشافعية أنه إذا كان الإمام في المسجد والمأموم خارجه لزم لصحة الاقتداء به عدم وجود حائل بينهما وإمكان وصول المأموم إلى مكان الإمام دون انحراف عن القبلة أو استدبار لها وإلا تزيد المسافة بينهما على ثلثمائة ذراع وتبدأ هذه المسافة من طرف المسجد الذي يلي المأموم إذا كان الإمام في المسجد -فإذا لم تتوافر هذه الشروط بطل الاقتداء بهذا الإمام.

ويرى فقهاءالحنابلة أنه لو كان المقتدي خارج المسجد والإمام في المسجد صح الاقتداء إذا رأى المأموم الإمام أو أي من وراءه من المأمومين، ولو فصل بينهما شباك ونحوه ولو زادت المسافة بين الإمام والمأموم على 300 ذراع -أما إذا فصل بينهما نهر تجري فيه السفن أو طريق ففي صحة الاقتداء قولان في المذهب: أحدهما لا تصح صلاة المأموم،

والآخر تصح. ويرى فقهاء المالكية أنه يجوز أن يفصل بين الإمام والمأموم نهر صغير أو طريق أو زرع مادام المأموم على علم بأفعال الإمام في الصلاة ولو بالسماع ليأمن الخلل في صلاته.

وبناء على ما تقدم ففي الموضوع الوارد بالسؤال تكون صلاة الجمعة وراء المذياع في غير المسجد وملحقاته غير صحيحة وعلى السائلين إذا كانت لديهم أعذار مانعة من صلاة الجمعة في المسجد أن يصلوا الظهر بعد انتهاء صلاة الجمعة لسقوط هذه الفريضة عنهم.

في خصوص صلاة الفروض الأخرى اقتداء خلف إمام في المسجد تذاع صلاته عبر الأثير فإن ذلك جائز ولو فصل طريق أو نهر بين المأموم وإمامه في مذهب الإمام مالك ورأي لبعض فقهاء الحنابلة، وقد اختار هذا ابن قدامة الحنبلي في كتابه المشار إليه (المغني) قال إنه الصحيح عندي ومذهب مالك والشافعي لأنه لا نص في منع ذلك ولا إجماع ولأن المؤثر في صحة الجماعة ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت .

هذه أراء فقهاء المذاهب في الموضوع. ولما كانت الحكمة المبتغاة من صلاة الجماعة هي اجتماع المسلمين في المسجد فإن الصلاة خلف الإمام عن طريق المذياع لا تلتقي مع مشروعية الجماعة في الصلاة، وإذا كان السائلون بالحال الواردة بالسؤال فإن شهودهم الجماعة في الصلوات المكتوبة غير مطلوب ولا إثم في صلاتهم فرادى أو جماعة في أماكنهم، هذا وقد قال ابن قدامة في شأن هذه الأعذار: “ويعذر في ترك الجمعة والجماعة المريض ومن يدافع الأخبثين أو بحضرة طعام والخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه على نفسه من سلطان أو ملازمة غريم ولا شيء معه أو فوات رفقة أو غلبة النعاس أو خشية التأذي بالمطر والوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة”.3 والله سبحانه وتعالى أعلم.4

اتضح من الفتاوى السابقة أن صلاة من يقتدي بالإمام الذي تنقل صلاته عبر المذياع أو التلفاز أنها باطلة لا تصح..

والله تعالى أعلم،، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


1 فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 9 / ص 493-499).

2 فتوى: حسنين محمد مخلوف. عن كتاب/ فتاوى الأزهر (ج 1 / ص 25).

3 الشرح الكبير لابن قدامة (ج 2 / ص 84).

4 فتاوى الأزهر (ج 1 / ص 84)، المفتي: جاد الحق علي جاد الحق.