القراءة بعد الفاتحة في الصلاة
الحمد لله رب العالمين الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على رسول الله القدوة الأعظم، والنبي الأكرم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد:
فإن التفقه في دين الله تعالى والتعرف على أحكام الدين من أجل الأعمال الصالحة التي حث عليها الإسلام ودعا إلى المداومة عليها؛ لأن بها صلاح العبد في الدنيا وفلاحه في الآخرة، ومن أهم ما يتعلمه المسلم من أمور دينه: ما يتعلق بمسائل الصلاة وأحكامها؛ لأنها أكثر أركان الإسلام تكرراً وتعدداً في اليوم الواحد، وسنقف في مقالنا هذا مع حكم كثر الكلام حوله والحديث عنه، وهو القراءة بعد الصلاة: مقداره والسور التي كان يقرؤها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما روى ذلك عنه أصحابه الكرام.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فإذا فرغ -صلى الله عليه وسلم- من الفاتحة أخذ في سورة غيرها، وكان يطيلها تارة ويخففها لعارض من سفر أو غيره ويتوسط فيها غالباً.
صلاة الفجر:
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية وصلاها بسورة (ق) وصلاها بـ (الروم) وصلاها بـ (إذا الشمس كورت) وصلاها بـ (إذا زلزلت) في الركعتين كليهما، وصلاها بـ (المعوذتين) وكان في السفر، وصلاها فافتتح بـ (سورة المؤمنين) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى أخذته سعلة فركع.
وكان يصليها يوم الجمعة بـ (ألم. تنزيل السجدة) وسورة (هل أتى على الإنسان) كاملتين، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين، وقراءة السجدة وحدها في الركعتين، وهو خلاف السنة. وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فضِّل بسجدة فجهل عظيم؛ ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم ودخول الجنة والنار، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم تذكيراً للأمة بحوادث هذا اليوم، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة (ق) و (واقتربت) و (سبح) و (الغاشية)..
صلاة الظهر:
وأما الظهر فكان يطيل قراءتها أحياناً حتى قال أبو سعيد: "كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- في الركعة الأولى مما يطيلها" رواه مسلم.
وكان يقرأ فيها تارة بقدر (ألم تنزيل) وتارة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) وتارة بـ (السماء ذات البروج) و (السماء والطارق).
صلاة العصر:
وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت، وبقدرها إذا قصرت.
صلاة المغرب:
وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم، فإنه صلاها مرة بـ (الأعراف) فرقها في الركعتين ومرة بـ (الطور) ومرة بـ (المرسلات).
قال أبو عمر ابن عبد البر: "روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قرأ في المغرب بـ (المص) وأنه قرأ فيها بـ (الصافات) وأنه قرأ فيها بـ (حم الدخان) وأنه قرأ فيها بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وأنه قرأ فيها بـ (التين والزيتون) وأنه قرأ فيها بـ (المعوذتين) وأنه قرأ فيها بـ (المرسلات) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل، قال: وهى كلها آثار صحاح مشهورة" انتهى.
وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائماً فهو فعل مروان بن الحكم؛ ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال: "ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟! وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بطولى الطوليين، قال: قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: (الأعراف)". وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن1.
وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ في المغرب بـ(الأعراف) في الركعتين2. فالمحافظة فيها على الآية القصيرة والسورة من قصار المفصل خلاف السنة وهو فعل مروان بن الحكم.
صلاة العشاء:
وأما العشاء الآخرة فقرأ فيها -صلى الله عليه وسلم- بـ (التين والزيتون) ووقَّت لمعاذ فيها بـ (الشمس وضحاها) و (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) ونحوها، وأنكر عليه قراءته فيها بـ (البقرة) بعدما صلى معه ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء الله، وقرأ بهم بـ (البقرة)؛ ولهذا قال له : (أفتان أنت يا معاذ)3 فتعلق النقارون بهذه الكلمة ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها.
صلاة الجمعة:
وأما الجمعة فكان يقرأ فيها بسورتي (الجمعة) و (المنافقين) كاملتين و (سورة سبح) و(الغاشية).
وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من {يا أيها الذين آمنوا} إلى آخرها فلم يفعله قط، وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه.
صلاة العيد:
وأما قراءته في الأعياد فتارة كان يقرأ سورتي (ق) و (اقتربت) كاملتين، وتارة سورتي (سبح) و (الغاشية).
وهذا هو الهدي الذي استمر -صلى الله عليه وسلم- عليه إلى أن لقي الله عز وجل لم ينسخه شيء.
ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده، فقرأ أبو بكر -رضي الله عنه- في الفجر بسورة (البقرة) حتى سلم منها قريباً من طلوع الشمس، فقالوا: يا خليفة رسول الله كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وكان عمر -رضي الله عنه- يقرأ فيها بـ (يوسف) و (النحل) و بـ (هود) و (بني إسرائيل) ونحوها من السور، ولو كان تطويله -صلى الله عليه وسلم- منسوخاً لم يخفَ على خلفائه الراشدين ويطلع عليه النقارون.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في الفجر {ق، والقرآن المجيد} وكانت صلاته بعد تخفيفاً، فالمراد بقوله بعد أي: بعد الفجر، أي: أنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها، وصلاته بعدها تخفيفاً، ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ و(المرسلات عرفاً) فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها في المغرب4. فهذا في آخر الأمر.
وأيضا فإن قوله: "وكانت صلاته بعد" غاية قد حذف ما هي مضافة إليه، فلا يجوز إضمار ما لا يدل عليه السياق، وترك إضمار ما يقتضيه السياق، والسياق إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفاً، ولا يقتضي أن صلاته كلها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفاً، هذا ما لا يدل عليه اللفظ، ولو كان هو المراد لم يخف على خلفائه الراشدين فيتمسكون بالمنسوخ ويدعون الناسخ.
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أيكم أم الناس فليخفف)5 وقول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخف الناس صلاة في تمام. فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين، فإنه -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه، وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به، فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها. وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بـ (الصافات) فالقرءاة بـ (الصافات) من التخفيف الذي كان يأمر به. والله أعلم.6
هذا كلام ابن القيم رحمه الله، والأمر أوسع مما ذكر؛ لأن القراءة بعد الفاتحة سنة وليس واجباً حتى يصار إلى هذا النقاش والردود، فإن الإمام أو المنفرد لو لم يقرأ بعد الفاتحة شيئاً لصحت صلاته، فلماذا يشدد على الناس ما كان سنة ومستحباً.
والحقيقة أن هناك غلواً في هذه المسائل أو تفريطاً، فمن الناس من أخذ بعض هذه النصوص وجعله منهجاً له في صلاته فترى بعضهم يطيل في المغرب بحجة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ فيها بسورة الأعراف أو نحوها، ولا يلتفت إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ فيها أيضاً بسور قصار.
والفريق الآخر وهو الأكثر أخذ بالأحاديث التي فيها التخفيف وقراءة قصار السور، وترك الأحاديث التي دلت على القراءة بسور طوال أو وسط.
والحق يقال أنه ما دام الأمر سنة وليس واجباً فلم التضييق على الناس في أمر مستحب! كان الأولى بنا حمل الناس على ما أوجب الله ورسوله، والتخفيف عليهم في السنن والمستحبات، وليكن الأمر وسطاً أو ميلاً إلى التخفيف على المأمومين، فما قيمة صلاة يقوم بها الناس وهم لطولها كارهون..!
ثم إنه من هداه الله تعالى وحبب إليه الصلاة فسيطيل فيها ولو كان منفرداً، لكن حمل الناس على التطويل لا تحمد عقباه من حيث القيام بالصلاة على وجه الكسل والملل، وقد يؤدي ذلك ببعض الناس إلى ترك الجماعة وهي واجبة، وقد يقع من الخلاف والصياح في المساجد ما يقع.
فإذن التطويل راجع إلى انسجام المصلين مع الإمام واتفاقهم معه، فلو اتفق أن أناساً يريدون الإطالة، فلا بأس من تطبيق السنة بهم، لكن الأصل في عامة المساجد التخفيف خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه المشاغل وقل الخشوع وقل المصلون وكثر المنفرون والمتربصون.
وهناك أمور واجبة تهم المسلم في يومه وليلته قد يغفل عنها ويشتغل بالخلاف في المستحبات، وهذا من تلبيس إبليس على الناس، فإنهم ربما فعلوا المحرمات وتركوا الواجبات، وانشغلوا بالمستحبات وتطويل الخلاف فيها والشقاق والنزاع.
وهناك سنن أخرى يمكن للإنسان القيام بها.. ولأن يجمع الإنسان قلوب الناس ويحبب إليهم الصلاة بسور الإخلاص، خير له من أن ينفر قلوبهم ويكره نفوسهم إلى الجماعة بسورة البقرة.
وهذا ما ينبغي مراعاته. والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل..