سجود التلاوة

سجود التلاوة في الصلاة وخارجها

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن السجود لله تعالى من العبادات التي أمرنا الله – تعالى -، ورسوله  بالإكثار منها؛ لأنه يرفع العبد درجات عند الله تبارك وتعالى، وقد جاء الأمر الإلهي بالسجود لله، والخضوع بين يديه؛ لأنه مالك الملك، وخالق الإنسان من ماء مهين، خلق كل شيء فقدره تقديراً قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (سورة الحج:77)، وغيرها من الآيات الكثيرة التي حثت وأوجبت على الناس الخضوع لله تعالى بالسجود، والركوع، والتذلل بين يديه.

والسجود لله تعالى أنواع كثيرة، فمنه سجود الصلاة، ومنه سجود الشكر، ومنه سجود التلاوة.

وسيكون موضوعنا هذا عن سجود التلاوة، مشروعيته، ومواضعه؛ في الصلاة وخارجها.

حكم سجود التلاوة:

قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: “سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب عند إمامنا ومالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وهو مذهب عمر، وابنه عبد الله، وأوجبه أبو حنيفة وأصحابه؛ لقول الله عز وجل: فما لهم لا يؤمنون۝ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ولا يذم إلا على ترك واجب؛ ولأنه سجود يفعل في الصلاة فكان واجباً كسجود الصلاة.

ولنا ما روى زيد بن ثابت قال: “قرأت على النبي  النجم فلم يسجد منا أحد” متفق عليه؛ ولأنه إجماع الصحابة.

وروى البخاري والأثرم عن عمر: أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر، وفي لفظ: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وفي رواية الأثرم فقال: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فقرأها ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا، وهذا بحضرة الجمع الكثير، فلم ينكره أحد، ولا نقل خلافه، فأما الآية: فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله، ولا مشروعيته، وقياسهم ينتقض بسجود السهو فإنه عندهم غير واجب.1

وممن رجح الوجوب ابن تيمية حيث قال: “قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة، قيل: يجب، وقيل: لا يجب، وقيل: يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة، وهو رواية عن أحمد، والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب، لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة كالثانية من الحج، والفرقان، واقرأ، وهذا ضعيف، فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (سورة السجدة:15)2، وأطال ابن تيمية جداً في تقرير الوجوب.

لكن الصحيح من فعل عمر – رضي الله عنه – أن ذلك سنة وليس واجباً، ولو كانت واجبة لما تركها، وقد شاهد فعله ذلك الجمع الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم؛ وكذلك ما ثبت عن زيد بن ثابت من ترك النبي  السجدة في سورة النجم؛ مما يدل على التخيير بين فعلها وتركها، وفعلها مستحب. هل يسجد المستمع للتلاوة؟

قال ابن قدامة: “ويسن السجود للتالي والمستمع لا نعلم في هذا خلافاً، وقد دلت عليه الأحاديث التي رويناها، وقد روى البخاري، ومسلم، وأبو داود؛ عن ابن عمر قال: كان رسول الله  يقرأ علينا السورة في غير الصلاة، فيسجد، ونسجد معه، حتى لا يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته. فأما السامع غير القاصد للسماع فلا يستحب له، وروي ذلك عن عثمان، وابن عباس، وعمران وبه قال مالك، وقال أصحاب الرأي: عليه السجود، وروي نحو ذلك عن ابن عمر، والنخعي، وسعيد بن جبير، ونافع، وإسحاق؛ لأنه سامع للسجدة، فكان عليه السجود كالمستمع، وقال الشافعي: لا أؤكد عليه السجود، وإن سجد فحسن.

ولنا: ما روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه مر بقاص، فقرأ القاص سجدة ليسجد عثمان معه فلم يسجد، وقال: إنما السجدة على من استمع، وقال ابن مسعود، وعمران: ما جلسنا لها، وقال سلمان: ما عدونا لها، ونحوه عن ابن عباس، ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه إلا قول ابن عمر: إنما السجدة على من سمعها، فيحتمل أنه أراد من سمع عن قصد، فيحمل عليه كلامه جمعاً بين أقوالهم؛ ولا يصح قياس السامع على المستمع، لافتراقهما في الأجر”3

والفرق بين السامع والمستمع أن السامع من لا يكون منتبهاً للتلاوة مركزاً عليها، وإنما يسمعها من غير قصد للسماع، والمستمع من يقصد سماع التلاوة، أو يجلس للسماع ويتعمده.

دعاء سجود التلاوة:

الأصل أن يقول في سجود التلاوة ما يقوله في سجود الصلاة، وإن زاد على ذلك ما ورد في الأحاديث عن النبي فحسن وخير، وقد ثبت حديثان عن النبي  في دعاء سجود التلاوة وهما:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله  يقول في سجود القرآن بالليل يقول في السجدة مراراً: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره؛ بحوله وقوته4 وفي رواية الحاكم بزيادة: فتبارك الله أحسن الخالقين، ومن الأدعية: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود5 قال في المغني: “ويقول في سجوده ما يقول في سجود الصلاة، قال أحمد: أما أنا فأقول سبحان ربي الأعلى.

وقد روت عائشة – رضي الله عنها -: أن النبي  كان يقول في سجود القرآن بالليل: “سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته”6 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وروى الترمذي، وابن ماجه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: جاء رجل إلى النبي  فقال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، فقرأ النبي  سجدة ثم سجد، فقال ابن عباس: فسمعته يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة، قال الترمذي: وهذا حديث غريب7، ومهما قال من ذلك ونحوه فحسن”.8  هذه أهم مسائل سجود التلاوة، وهناك مسائل عديدة يجدها القارئ الكريم في مواطنها في كتب الفقه والفتاوى وغيرها، نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 المغني (ج 3 / ص 96).

2 مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 5 / ص 297).

3 المغني (ج 3 / ص 97).

4 رواه أبو داود والترمذي  وأحمد والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.

5 رواه الترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وقد ضعفه الألباني.

6 سبق تخريجه.

7 تقدم تخريجه.

8 المغني (ج 3 / ص 93).