الحركة وحمل الصبيان في الصلاة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن الصلاة هي ركن الإسلام الأعظم، بعد الشهادتين، وهي آخر ما يتمسك الناس به من أمور دينهم كما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولأهمية الصلاة في الإسلام ولعظمة منزلتها عند الله تعالى، ولكونها صلة بين العبد وربه لزم لها من اللوازم الكثيرة والحدود المنيعة التي تحافظ على قيمتها وكنهها، ومن ذلك القنوت والهدوء والبعد عن مشاغل الدنيا وأعمالها من حركة ومأكل وكلام وانتقال ولغو، فكل هموم الإنسان فيها أن يذكر الله ويخشع في صلاته.
ولما كان الخشوع هو لب الصلاة وثمرتها وزبدتها وخلاصتها، والغاية العظمى منها، لأنه يصل العبد بربه وخالقه، ويزيل عنه الأكدار والشدائد، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أهمه أمر فزع إلى الصلاة، لما كان الخشوع كذلك احتيط له عما يخرجه عن طوره، ومن تلك الاحتياطات والضوابط: الهدوء في الصلاة وترك الحركات والانشغال عنها بغيرها من الملهيات والمغريات..
لكن هنا ترد مسألة من المسائل التي ربما أنكرها كثير من الناس وهي مسألة الحركة لحاجة في الصلاة وحمل الصبي فيها.
وقد وقع هذا للنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث حمل أمامة بنت الربيع، ومرة ارتحله الحسن أو الحسين -رضي الله عنهم-، كما روى مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها.
وروى النسائي عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: (كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)1.
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطرأ له في بعض الأحيان طارئ طفل يحضر بين يديه وهو يصلي فيعامله معاملة رحيمة طيبة، ولم يمنعه كونه في الصلاة من الرفق بالصغير وحمله فيها..
لكن هل كل ذلك جائز لنا أم هو من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-؟ لكونه أعظم الناس تقوى وخشية وخشوعاً بين يدي الله رب العالمين، لا يشغله شاغل عن ربه ومولاه، ولو ظهر للناس أنه منشغل بهم أو بغيرهم فقلبه مع ربه تبارك وتعالى.
قال بدر الدين العيني في شرح "حديث أمامة" السابق:
"تكلم الناس في حكم هذا الحديث فقال النووي: هذا يدل لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة النفل، ويجوز للإمام والمنفرد والمأموم، قلت: أما مذهب أبي حنيفة في هذا ما ذكر صاحب (البدائع) وفي بيان العمل الكثير الذي يفسد الصلاة والقليل الذي لا يفسدها، فالكثير ما يحتاج فيه إلى استعمال اليدين، والقليل ما لا يحتاج فيه إلى ذلك، وذكر لهما صوراً حتى قال: إذا أخذ قوساً ورمى فسدت صلاته. وكذا لو حملت امرأة صبيها فأرضعته لوجود العمل الكثير الذي يفسد الصلاة، وأما حمل الصبي بدون الإرضاع فلا يوجب الفساد، ثم روى الحديث المذكور، ثم قال: وهذا الصنيع لم يكره منه لأنه كان محتاجاً إلى ذلك لعدم من يحفظها أو لبيان الشرع بالفعل، وهذا غير موجب فساد الصلاة، ومثل هذا أيضاً في زماننا لا يكره لواحد منا لو فعل ذلك عند الحاجة، أما بدون الحاجة فمكروه. انتهى.
وذكر أشهب عن مالك أن ذلك كان من رسول الله في صلاة النافلة، وأن مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة. وقال أبو عمر: حسبك بتفسير مالك، ومن الدليل على صحة ما قاله في ذلك: أني لا أعلم خلافاً أن مثل هذا العمل في الصلاة مكروه، وقال النووي: هذا التأويل فاسد؛ لأن قوله يؤم الناس صريح أو كالصريح في أنه كان في الفريضة، قلت: هو ما رواه سفيان بن عيينة بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري قال: رأيت النبي يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي بنت زينب ابنة رسول الله على عاتقه؛ ولأن الغالب في إمامة رسول الله كانت في الفرائض دون النوافل، وفي رواية أبي داود عن أبي قتادة صاحب رسول الله قال: بينما نحن ننتظر رسول الله للصلاة في الظهر أو العصر وقد دعا بلالاً للصلاة إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عنقه، فقام رسول الله في مصلاه وقمنا خلفه.. الحديث.
وفي كتاب (النسب) للزبير بن بكار عن عمرو بن سليم أن ذلك كان في صلاة الصبح. وقال النووي: وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وقال الشيخ تقي الدين: هو مروي عن مالك أيضاً، وقال أبو عمر: ولعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال بالصلاة، وقد رُد هذا بأن قوله: "إن في الصلاة لشغلاً"2 كان قبل بدر عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة، وأن قدوم زينب وبنتها إلى المدينة كان بعد ذلك، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان فيه إثبات النسخ بمجرد الاجتهاد. وروى أشهب وابن نافع عن مالك أن هذا كان للضرورة، وادعى بعض المالكية أنه خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ذكره القاضي عياض. وقال النووي: "وكل هذه الدعاوى باطلة ومردودة فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على أن هذه الأفعال في الصلاة لا تبطلها، إذا قلَّت أو تفرقت، وفعل النبي هذا بياناً للجواز وتنبيها عليه"3
قلت: وقد قال بعض أهل العلم إن فاعلاً لو فعل مثل ذلك لم أر عليه إعادة من أجل هذا الحديث، وإن كنت لا أحب لأحد فعله، وقد كان أحمد بن حنبل يجيز هذا، قال الأثرم: سئل أحمد: يأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم، واحتج بحديث أبي قتادة. قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا الصنيع من رسول الله لا عن قصد وتعمد له في الصلاة، ولعل الصبية لطول ما ألفته واعتادته من ملابسته في غير الصلاة كانت تتعلق به حتى تلابسه وهو في الصلاة، فلا يدفعها عن نفسه ولا يبعدها، فإذا أراد أن يسجد وهي على عاتقه وضعها بأن يحطها أو يرسلها إلى الأرض حتى يفرغ من سجوده، فإذا أراد القيام وقد عادت الصبية إلى مثل الحالة الأولى لم يدافعها ولم يمنعها، حتى إذا قام بقيت محمولة معه، هذا عندي وجه الحديث، ولا يكاد يتوهم عليه أنه كان يتعمد لحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة تارة بعد أخرى؛ لأن العمل في ذلك قد يكثر فيتكرر، والمصلي يشتغل بذلك عن صلاته، وإذا كان عَلَمُ الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صفته من الأمور؟! وفي ذلك بيان ما تأولناه.
وقال النووي بعد أن نقل ملخص كلام الخطابي: "هذا الذي ذكره باطل ودعوى مجردة ومما يرد عليه قوله في (صحيح مسلم): فإذا قام حملها، وقوله (فإذا رفع من السجود أعادها) وقوله في غير رواية مسلم: (خرج علينا حاملاً أمامة فصلى..) فذكر الحديث، وأما قضية الخميصة فلأنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلِّم أنه يشغل القلب، وإن أشغله فيترتب عليه فوائد وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل بهذه الفوائد،. بخلاف الخميصة فالصواب الذي لا معدل عنه أن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد، فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين".4 قلت: وجه آخر لرد كلام الخطابي: قوله (فقام فأخذها فردها في مكانها) وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه لا من أمامة. وقال بعض أصحاب مالك: لأنه عليه السلام لو تركها لبكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها، وفرق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة، وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال لوجود الطمأنينة في أركان صلاته، وقال الفاكهاني: كان السر في حمل أمامة في الصلاة دفعا لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، وخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز إدخال الصغار في المساجد. ومنها: جواز صحة صلاة من حمل آدمياً وكذا من حمل حيواناً طاهراً. ومنها: أن فيه تواضع النبي عليه الصلاة والسلام وشفقته على الصغار وإكرامه لهم ولوالديهم".5
وقد أجاد بدر الدين العيني هنا وأفاد ونقل كلام العلماء وآرائهم في شرح حديث أمامة الذي هو عمدة الموضوع هذا.
وبالجملة فالحركة في الصلاة تقع على الأحكام الشرعية الخمسة المفصلة في الآتي:
حركة واجبة: كالركوع والسجود ونحوهما.
حركة مستحبة: كالإشارة بالأصبع في التشهد، ورفع اليدين عند التكبير للركوع والرفع منه ونحوها.
وحركة مكروهة: كالإكثار من الحك أو العبث بالملابس ونحو ذلك.
وحركة محرمة: وهي التي تبطل الصلاة، كالانحراف عن القبلة، أو التقدم والتأخر لغير حاجة شرعية، ونحو ذلك.
وحركة مباحة: كالحركة القليلة لحاجة مثل: الحك للحاجة أو فتح باب قريب من المصلي أو إغلاق مفتاح بجانبه للضرورة، أو رفع العمامة إذا سقطت، ومن هذه الحركة ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمامة بنت ابنته، وكذلك ما فعله مع الحسن أو الحسين. والله أعلم.