نداء الإيمان

نداء الإيمـان

نداء الإيمـان

 

الحمدُ للهِ الملكِ الدَّيَّان،رفع قدرَ أهلِ العلمِ والإحسانِ،وجَعَلَ من الإيمان الصَّدحَ بكلماتِ الأذانِ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله عظيم الشأن،وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله,المبعوث إلى الإنس والجان، فصلى اللهُ عليه,وعلى آله وأصحابه الذين أجابُوا مُنادي الرَّحمنِ .

أمَّا بعدُ:

فإنَّ من خصائص هذه الأمَّةِ الأذان للصلوات الخمس،فالأذانُ من أظهر الشعائر الإسلاميَّة لهذه الأمة، وهو العَلَامة الدَّالَّة المفرِّقة بين دار الإسلام ودار الكفر،وشعار للإسلام وأهله,حيث يُنادى به كل يوم وليلة خمس مرات،فهو مرتبط بأعظم أركان الإسلام والإيمان-بعد الشهادتين-،وأجلّ قواعد الإيمان الصلاة التي ميَّزت أهل الإسلام والإيمان،من أهل الكفر والطُّغيان.

وهو اسم يقوم مقام الإيذان،وهو المصدر الحقيقي،والأذان اسم التأذين، كالعذاب اسم التعذيب.

والأذان والتأذين: النداء إلى الصلاة،وهو الإعلام بها وبوقتها.

وجاء تعريفه في كتب الفقه في جميع المذاهب وهي متقاربة، ويمكن أن نخلص بهذا التعريف :الأذان: هو إعلام بوقت الصلاة المفروضة، بألفاظ مخصوصة(1).

وقد اختلف العلماء في تحديد سنة بدء الأذان،حيث ذكر العلماء أن الأذان والإقامة شُرِعَا بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة(2)،وقيل إنهما شرعا في مكة قبل الهجرة(3),وقيل إنهما شرعا في السنة الثانية من الهجرة(4).

إن ذكر أدلة الخلاف في بدء مشروعية الأذان ومناقشتها يطول، وإننا قد اقتصرنا هنا على الصحيح من القول مع الأدلة، ولم نأتِ بدليل لقول من الأقوال غير الصحيحة؛ لأنه ليس مكاناً لبسطه هنا، فمن أراد أن يطلع عليها فليراجع كتاب "أحكام الأذان والنداء والإقامة".دراسة فقهية مقارنة: رسالة ماجستير، تأليف سامي بن فرج الحازمي.

 حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنه-قال:"كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيَّنون(5)الصلاة لينادى لها،فتكلموا يوماً في ذلك,فقال بعضهم: اتخذوا ناقُوساً مثلَ ناقوسِ النَّصَارَى،وقال بعضُهم: بل بوقاً مثلَ قَرْنِ اليهودِ،فَقَالَ عُمَرُ: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(يا بلال,قُمْ فنادِ بالصَّلاةِ)(6).

ترجم البخاري-رحمه الله-لهذا الحديث باب بدء الأذان,وقوله-عز وجل-:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(المائدة:58), وقوله-تعالى-:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}الجمعة: من الآية9), فكأن البخاري-رحمه الله-يشير بهذه الآيات المدنية إلى أن ابتداء مشروعية الأذان كان بالمدينة وحديث ابن عمر صريح في ذلك.

ويتبين لنا من حديث ابن عمر هذا فائدتان:

أولاً: أن النداء للصلاة لم يُشرع إلا بالمدينة بعد مقدم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إليها،فكل ما روي من أن الأذان شُرع بمكة أو ليلة الإسراء نبَّه الحافظُ ابن حجر في الفتح(ج2/ص79). على عدم صحة شيء من هذه الروايات.

ثانياً: أن النداء الذي أمر به النبي-صلى الله عليه وسلم-بلالاً-بعد مشاورته أصحابه واختلافهم في كيفية الدعوة إلى الصلاة-لم يكن بألفاظ الأذان المشروع؛ لأن الأذان المشروع لم يؤذن به بلال إلا عقب رؤيا عبد الله ابن زيد، وهذا واضح لمن تدبر سياق الواقعتين (أي حديث ابن عمر، ورؤيا عبد الله بن زيد) فحديث ابن عمر فيه أن عمر كان موجوداً وقتما حصلت المشاورة, بل كان هو المشير بالنداء المذكور في الحديث حيث قال " أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة" وأما واقعة عبد الله بن زيد فكان عمر في بيته حين سمع النداء المشروع,فسارع إلى المسجد ليخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-بأنه رأى في منامه مثل هذا الأذان. فتبين بهذا أنهما واقعتان في وقتين مختلفين.

ثم إنه من خلال هذا يكون النداء للصلاة قد مرَّ بمراحل ثلاث:

أولاً: أن الصلاة لم يكن يُنادى لها بالمرة,وكان هذا منذ فرضت بمكة حتى مقدم المدينة،فكان المسلمون في تلك الفترة يتحينون أوقات الصلوات فيجتمعون ويصلون.

ثانياً: نداء بلال بألفاظ مطلقة,وهذا على أثر مشاورة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أصحابه، في شأن جمع المسلمين لصلاتهم,فأشار عمر-رضي الله عنه-ببعث مَن يُنادي للصلاة في أول الوقتِ فاطمأنَّ النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-لذلك بعد أنْ كان هم بصنع ناقوس مع كراهته له, فأمر بلالاً بما أشار به عمر من النداء للصلاة دون تحديد لألفاظ معينة يتعبد بها.

ثالثاً: النداء للصلاة بألفاظ الأذان المشروع,وهو الذي استقر عليه الأمر فيما بعد،وكان هذا بعد رؤيا عبد الله بن زيد.والرؤيا عن محمد بن عبد الله بن زيد,قال: حدثني أبي عبد الله بن زيد,قال:" لما أمر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة،طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده,فقلت:يا عبد الله,أتبيعُ النَّاقوسَ؟ قال: وما تصنعُ به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة,قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟,فقلت له: بلى. قال: فقال: تقول الله أكبر الله أكبر،الله أكبر الله أكبر،أشهد أن لا إله إلا الله,أشهد أن لا إله إلا الله,أشهد أن محمداً رسول الله, أشهد أن محمداً رسول الله،حي على الصلاة,حي على الصلاة,حي على الفلاح,حي على الفلاح, الله أكبر,الله أكبر,لا إله إلا الله.فلما أصبحتُ,أتيتُ رسولَ اللهِ-صلى الله عليه وسلم- فأخبرتُهُ بما رأيتُ,فَقَالَ:(إنَّها لرؤيا حق إن شاء الله,فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به) قال فسمع ذلك عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-وهو في بيته فخرج يجر رداءه,ويقول: "والذي بعثك بالحق يا رسول الله,لقد رأيت مثل الذي رأى"(7).

وبهذا نخلص إلى أن الأذان بدأ في المدينة؛ لأن الأدلة على ذلك ظاهرة وصحيحة.

الحِكْمَةُ مِنْ مشروعيَّةِ الأذانِ والإقامةِ

ولما كانت-الصلاة-من أعظم شعائر الإيمان،كان من أعظم شعائرها الأذان؛ لأن الإنسان لا يزال يتقلّب في الأطوار،وينتقل في طلب الأوطار(8)، لاهياً بما هو فيه من دنس دنياه،عما خلق له من طاعة مولاه، مشغولاً بما لا ينفعه،فإذا دخل وقت الصلاة احتاج إلى ما يحثّه عليها، ويرغبه فيها، لئلَّا يلهُو عنها بأعمالِهِ،ويتشاغل عنها بأشغاله،فكان الأذان هو المرغِّب لأدائها،والمحرّك للهمَّة إلى إجابة ندائها.

إذن فالأذان شُرِعَ لحكمٍ عظيمةٍ،وفوائدَ جليلةٍ، يقولُ الإمامُ "ابنُ الهمام"-رحمه الله-: "المقصود من الأذان لم ينحصر على الإعلام,بل هو نشر لذكر الله ودينه في أرضه, وتذكيراً لعباده من الجن والإنس الذين لا يرى شخصهم في الفلوات من العباد"(9).

وقال الحافظُ "أبو العبَّاس القرطبيُّ": "ويحصل من الأذان إعلام بثلاثة أشياء: بدخول الوقت،وبالدعاء إلى الجماعة،ومكان الصلاة،وبإظهار شعار الإسلام"(10).

وأهم الحكم التي تتجلَّى في مشروعية الأذان تتلخص فيما يلي:

1-               الإعلام بدخول وقت الصلاة،وهو المقصود الأعظم من الأذان.

2-               إظهار شعار الإسلام في كل بلدة أو مصر.

3-               نداء لحضور الجماعة ومكان الصلاة.

4-      هو العلامَةُ الدالّة والمُفرِّقة بين دارِ الإسلامِ ودارِ الكُفْرِ،فقد كانَ النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-إذا غزا،فإن سمع أذاناً أمسك,وإلا أغار11.

5-      اشتماله على فوائد جليلة أخرى تطرد الشيطان،واستجابة الدعاء عنده,وغيرها.فقد جاء من حديث أبي الدرداء,قال: سمعتُ رسولَ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-يقولُ:(ما من ثلاثةٍ لا يُؤذنون،ولا تقام فيهم الصلاة,إلا استحوذَ عليهم الشَّيطانُ)(12).أما استجابة الدعاء فقد جاء من حديثِ جَابِرٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-,قَالَ:(مَنْ قال حين يسمعُ النداء:اللهُمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة،والصلاة القائمة آتِ مُحمَّداً الوسيلة والفضيلة،وابعثْهُ مَقَاماً محمُوداً الذي وعدته،حَلَّتْ لَهُ شفاعتي يومَ القيامةِ)(13).

وعن أنس بن مالك,قال: قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-:(الدُّعاءُ لا يُردُّ بينَ الأذانِ والإقامةِ)(14)

أما الإقامة فلا تختلف عن الأذان كثيراً من حيث حكمة المشروعية ، فأكثر ما قيل في الأذان من حكم وفوائد يُقال في الإقامة، ذلك أن الإقامة تُسمَّى أذاناً –أيضاً-؛ لأنها إعلامٌ بحضور فعل الصلاة،كما أن الأذان إعلامٌ بدخولِ الوقتِ. فيكون المقصود الأعظم منها هو الإعلام بالشروع في الصلاة(15وقد جاء هذا الإعلام بألفاظ عظيمة،تضمنت عقيدة الإيمان، وتعظيم الله،وإقرار الفلاح والفوز، لمجيب النداء، ليدخل المصلي في الصلاة على بينة من أمره،وبصيرة من إيمانه،ويستشعر عظيم ما دخل فيه, وعظمة حقّ مَن يعبده وجزيل ثوابه(16).

حُكْمُ الأذانِ والإقَامَةِ

فقد اختلف العلماء في حكمهما على عدة أقوال:

القول الأول: أن الأذان والإقامة سنَّة مؤكدة للرجال جماعة في كل مسجد للصلوات الخمس والجمعة،دون غيرها، كالعيد, والكسوف, والتراويح, وصلاة الجنازة، ويُقال فيها أي "صلاة الكسوف والخسوف"عند أدائها جماعة:"الصلاة جامعة" لما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال: "لما انكسفت الشمس على عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-،نُودي"الصلاة جامعة". أما الأذان والإقامة، فلأن المقصود منهما الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، والقيام إليها.ولا تسن للنافلة والمنذورة، وهذا القول قال به الجمهور(غير الحنابلة),ومنهم الخرقي الحنبلي(17).

أدلتهم عَلَى السُّنيَّةِ :

1-      حديث أبي هُريرة-رضي الله عنه-في حديث الأعرابي المسيء صلاته حيث قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-:(إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن…" وفي رواية: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر), ووجه الدلالة أن النبي- صلى الله عليه وسلم-أمر الأعرابي بالوضوء,واستقبال القبلة،وأركان الصلاة, وواجباتها,ولم يذكر معها الأذان, والإقامة(18).

2-      حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال:(لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول,ثم لم يجدُوا إلا أنْ يستهموا عليه لاستهموا…)(19). ووجه الدلالة أن النبي-صلى الله عليه وسلم-لم يأمر بالأذان،وإنما اكتفى بالحث عليه والترغيب فيه، كما حثَّ على الصف الأول ورغَّب فيه،فدلَّ على أن الأذان سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ.

       هذه أدلة القول الأول من السنة النبوية.

3-       أما الأدلة العقلية: فيقولون أن الأذان كونه ثبت عن مشورة حتى تقرَّر برؤيا عبد الله بن زيد،وليس هذا من صفات الواجبات،وإنما هو من صفات المندوبات(20).

4-  وقالوا كذلك أنه لو وجب الأذان للصلاة,وكان شرطاً في صحتها,وجب أنْ يكونَ زمانُهُ مستثنى من وقتها،فلمَّا قال-صلى الله عليه وسلم-:(بينَ هذينِ وقتٌ)(21)،إشارة إلى أول الوقت وآخره من غير أن يستثنى منه زمان الأذان، دلَّ على أنه ليس بشرط في صحتها,وإنما هو سنّة(22).

القول الثاني:

أن الأذان والإقامة فرضُ كفايةٍ.

أدلة القائلين بهذا القول:

1-      حديث مالك بن الحويرث-رضي الله عنه-وفيه أن النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم-,قالَ:(…فإذا حضرت الصلاة,فليُؤذِّن لكم أحدُكُم وليؤمكم أكبرُكُم)(23).ووجه الدلالة من هذا الحديثِ أنَّ النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم-أمرَ بالأذانِ،والأمرُ يقتضي الوجوبَ(24).

2-       حديث أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول:(ما من ثلاثة في قرية لا يؤذنُ ولا تقام فيهم الصلاة،إلا استحوذ عليهم الشَّيطانُ)(25).ووجه الدلالة من هذا الحديث, أنه دلَّ على أنَّ الأذانَ هو العلامةُ الدالَّة المفرِّقة بينَ دارِ الإسلامِ ودار الكفر(26)، فكان النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-يُعلِّقُ استحلالَ أهلِ الدَّارِ بتركِ الأذانِ، فصارتْ منزلةُ الأذانِ في منع التحريم منزلة الإيمان(27).

              هذا من أدلة السنة النبوية الصحيحة

3-  أمَّا من حيث العقل؛فقد قال أصحابُ هذا القول: أن الأذان من شعائر الإسلام الظاهرة،فلا يجوز تعطيلُهُ،ولو اجتمع أهلُ البلد على تركِهِ لقُوتلوا عليه،والقتال إنما يكون على ترك الواجب دون السنة(28).وكذلك قالوا: إنَّ ملازمةَ النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلم-طُوالَ حياتِهِ من أول الهجرة إلى الموتِ لم يثبتْ أنه ترك ذلك في سَفَرٍ ولا حَضَرٍ إلا يوم المزدلفة(29).

القول الثالث:

أن الأذان والإقامة فرض كفاية في الجمعة،سُنَّة في غيرها،وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة منها:

1-      قوله-تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(الجمعة:9).ووجه الدلالةِ من الآيةِ أنه لما كَانَ النِّداءُ سَبَباً للسعي,وكَانَ السَّعيُ واجِباً,كانَ النِّداءُ وَاجِبَاً(30).

1-أمَّا مِن المعقول فإن الأذان دعاء للجماعة،والجماعة واجبة أو شرط في الجمعة،سنّة في غيرها عند الجمهور،فلمَّا اختصَّت الجمعةُ بوجوبِ الجَمَاعَةِ,اختصَّتْ بوجوبِ الدُّعاءِ إليها(31).

الترجيح:

 

اختلف العلماء في حكم الأذان والإقامة إلى عدة أقوال كما سلف، والذي يظهر من هذه الأقوال هو القول الثالث، والذي يقول بأن الأذان والإقامة فرض كفاية،وقد ذهب إلى هذا الترجيح  من المعاصرين العلامة العثيمين رحمه الله هناك رسالةقيمة للأستاذ سامي بن فرج الحازمي بعنوان: "أحكام الأذان والإقامة" أورد الأدلة أدلة كل فريق وناقشها وترجح ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، وهم القائلون بأن الأذان والإقامة فرض كفاية، وذلك لقوة أدلته فيه والتي منها قوله  صلى الله عليه وسلم-الذي: (ليؤذن لكم أحدكم) فإنه ظاهر الأمر والأمر يقتضي الوجوب، غير أنه واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين. والله أعلى وأعلم.

 

كيفية الأذان ومعاني كلماته

اتفق الفقهاء على الصيغة الأصلية للأذان المعروف الوارد بكيفية متواترة من غير زيادة ولا نقصان,وهو مَثْنى مَثْنى،كَمَا اتفقوا على التَّثويب,أي الزيادة في أذان الفجر بعد الفلاح,وهي:" الصلاة خير من النوم" مرتين،عملاً بما ثبت في السنة عن بلال(32)،ولقوله-صلى الله عليه وسلم- لأبي محذورة- :"… فإذا كان أذان الفجر، فقل: الصلاة خير من النوم مرتين"(33).

واختلفوا في الترجيع؛وهو أن يأتي بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً،فأثبته المالكيةُ والشَّافعيةُ،وأنكره الحنفيةُ والحنابلةُ،لكن قال الحنابلةُ: لو أتى بالتَّرجيع لم يُكره.

قال الحنفية والحنابلة على المختار(34): الأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه، كما جاء في خبر عبد الله بن زيد(35)، وهي :" الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله،حي على الصلاة، حي على الصلاة،حي على الفلاح،حي على الفلاح،الله أكبر،الله أكبر،لا إله إلا الله"(36).

واتفقوا على أن الأذان مثنى,ما عدا الجملة الأخيرة منه، وهي قول" لا إله إلا الله" فهي مفردة. ودليلهم حديث أنس بن مالك قال:" أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة37"38

معاني كلمات الأذان

قال الإمام القرطبي-رحمه الله تعالى- وغيره: اعلم أن الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ بالأكبرية،وهي تتضمّن وجود الله-تعالى- ووجوبه، وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد ونفي الشريك،ثم ثلّث برسالة رسوله-صلى الله عليه وسلم-،ثم ناداهم لما أراد من طاعته المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول،ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم,وفيه الإشارة إلى المعاد،ثم أعاد ما أعاد توكيداً(39).

فقوله:" الله أكبر" أي من كلِّ شيء،أو أكبر من أن يُنسَبَ إليه مالا يليق بجلالِهِ،أو هو بمعنى كبير.

وقوله:" أشهد" أي أعلم.وقوله:" حي على الصلاة" أي أقبلوا إليها،أو أسرعوا. والفلاح: الفوز والبقاء؛لأن المصلي يدخل الجنة إن شاء الله،فيبقى فيها ويُخلَّد. والدعوة إلى الفلاح معناها: هلموا إلى سبب ذلك. وختم بـ"لا إله إلا الله" ليختم بالتوحيد وباسم الله تعالى، كما ابتدأ به(40).

 فالأذان تلخيصٌ لدعوة الإسلام ؛ لأنه متضمن للشهادتين ، والإسلام كله قام على أساسين عظيمين: أن يُعبد الله وحده،وتلك شهادة أن " لا إله إلا الله"، وأن يُعبد بما جاء به رسوله-صلى الله عليه وسلم- وتلك شهادة أن " محمداً رسول الله" ، فالإسلامُ بناءٌ يقوم على أركانٍ خمسةٍ,أولها الشهادتان".

وكما في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، ففيه: حي على الصلاة ، حي على الفلاح ،والصلاة من أولها إلى آخرها تصديق عملي بالشهادتين ؛ ففيها يقول المسلم في الفاتحة {إياك نعبد وإياك نستعين},وتلك شهادة "أن لا إله إلا الله" ، وفيها يقول :{اهدنا الصراط المستقيم} ، وتلك شهادة    

"أن محمداً رسول الله".

أشهد أن محمداً رسول الله حقّاً ، فهو من جهة ليس إلها، وليست فيه أي صفة من صفات الألوهية، ومن جهة ثانية: ليس كذاباً, ولا ساحِراً, ولا كاهناً, ولا مجنوناً، فالذي يشترك فيه مع الناس هو البشرية،والذي يتميز به عنهم هو الوحي والنبوة،كما قال (سبحانه): {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ } فصلت:6 .وقد قامت على صدق نبوته دلائل كثيرة: فمنها صفاته،ومنها معجزاته،ومنها نبوءاته،ومنها البشارات به في الكتب السابقة،ومنها ثمرات دعوته في الأرض … إلا أن أعظم آية تشهد له بالنبوة هي القرآن الكريم،قال الله (تعالى) : {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ}الحاقة : 43 .

حي على الصلاة ، حي على الفلاح :

هاتان الجملتان تعقبان الشهادتين في الأذان،وذكر الصلاة عقب الشهادتين يُوافِقُ الترتيبَ الذي رتبت به أركان الإسلام,وحيثُ إنَّ الإنسان مجبولٌ على تقديم العاجلة على الآجلة،وتفضيل النقد على النسيئة،وبما أن الدنيا عَرَض حاضر،والآخرة وعد صادق،فالدُّنيا يراها والآخرة يسمع عنها،فالذي يحدثُ–غالباً-هُو انشغالُ الإنسان بما يَرَى عمَّا يسمعُ،والإقبال على العرض الحاضر,والغفلة عن الوعد الصادق،فيأتي في الأذان "حي على الصلاة، حي على الفلاح" ؛ لينادي على الناس في أسواقهم يبيعون ويشترون،أو في أعمالهم يصنعون ويعملون، أو في بيوتهم يأكلون ويشربون،أن يؤثروا الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، كما أمرهم الله.فنداء المؤذن: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" عند كل صلاة إعلان عن وسطية الإسلام,وجمعه بين الدين والدنيا،فالمسلم في عبادة قبل الحضور إلى المسجد،وهو في عبادة عندما يحضر بعد سماع الأذان،وهو في عبادة عندما ينصرف بعد الصلاة إلى أشغاله وأعماله.

الله أكبر الله أكبر :

هذا النداء الذي افتتح به الأذان واختتم به، فيه تكبير الله (عز وجل)، فهو (سبحانه)  {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} الرعد : 9 وحيث إن الصلاة دعوة منه (سبحانه) ينقلها المؤذن عبر الأذان؛ ناسب افتتاحها بالتكبير ليعلم الناس أن الله (تعالى) أكبر من كل شيء يَصدّهم عن دعوته، أو يشغلهم عن إجابة ندائه {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} الجمعة:141.  

 

المراجع:

كتاب الأذان: لأبي حاتم أسامة بن عبد اللطيف القوصى: قدم له أبو عبد الرحمن الشيخ/ مقبل بن هادي الوادعي.

كتاب أحكام الأذان والنداء والإقامة دراسة فقهية مقارنة: رسالة ماجستير، تأليف سامي بن فرج الحازمي.

كتاب الصلاة: لأبي نعيم الفضل بن دكين.

أحكام الأذان والإقامة ص(42-51).

نيل الأوطار: (2/39).

الفقه الإسلامي وأدلته(1/535).

سبل السلام: (1-2/43-44).

 

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين،،،


 


1 – راجع: أحكام الأذان والنداء والإقامة ص(25).

2 – السيرة النبوية لابن هشام(2/115).

3 – شرح فتح القدير لابن الهمام(1/241).

4 فتح الباري(2/94). ونيل الأوطار(2/32).

5 – أي يطلبون حينها، والحين الوقت(النهاية1/451).

6 – البخاري- الفتح،(1/205)(604)، كتاب الأذان، باب بدء الأذان، ومسلم (1/239)(377)،كتاب الصلاة،باب بدء الأذان.

7 – جامع الترمذي (1/122) . وقال: حديث حسن صحيح . وصححه الألباني في "صحيح أبي داود", رقم(469).

8 – جمع وطر: والوطر: الحاجة.

9 – فتح القدير (2/254-255).

10 شرح صحيح مسلم للنووي(4/77).

11 – روى مسلم في صحيحه 660 عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار .."

12 – رواه أحمد، واللفظ له، و أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة،(1/266)(547).وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم(511).

13 رواه البخاري(589).

14 – رواه أحمد وأبو داود والترمذي . وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" رقم(2843).

15 – الهداية(1/255).

16 – إكمال المعلم بفوائد مسلم: للقاضي عياض (2/254).

17 – الفقه الإسلامي وأدلته(1/535).

18 – مغني المحتاج(1/133).

19 – سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود(1/379).رقم(861). وصححه الألباني في صحيح  الجامع رقم(5339).

20 – الحاوي الكبير لأبي الحسن علي الماوردي(2/49).

21 سنن النسائي، كتاب المواقيت، باب أول وقت الصبح(1/292)(543).وصححه الألباني في صحيح السلسلة الصحيحة(1115).

22 – الحاوي الكبير(2/49).

23 – البخاري في الفتح-كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد رقم(674).

24 – الجامع لأحكام القرآن للقرطبي(6/213). والمغني(2/72).

25 – رواه أحمد، اللفظ له، و أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة،(1/266)(547).وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم(511).

26 – النتقى شرح الموطأ للباجي(1/136).

27 – مجموع الفتاوى (22/65).

28 – فتح القدير(1/240).

29 – نيل الأوطار(2/39).

30 – الحاوي الكبير(2/49).

31 – المجموع (3/89).

32 – رواه الطبراني وغيره.نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته (1/543).

33 –  رواه أحمد أبي داود. وصححه الألباني في تمام المنة رقم(88).

34 – اللباب شرح الكتاب(1/62). وما بعدها، وفتح القدير(1/167). نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته(1/543).

35 – وهو حديث أذان المالك النازل من السماء، رواه أبو داود في سننه.

36 – راجع: الفقه الإسلامي وأدلته (1/543-544).

37 – البخاري- الفتح- (605). كتاب الأذان باب الأذن مثنى مثنى.

38 – أحكام الأذان والإقامة ص(65).

39 – المفهم (2/14)، نقلاً من حاشية أحكام الأذان والإقامة ص(64).

40 – كشاف القناع(1/273). نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته(1/544).

41 –  نقلاً عن مقال في عدد البيان 95 ص 32 وما بعدها بتصرف.