القدر المشترك من مسؤولية الإمامة

القدر المشترك من مسؤولية الإمامة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

فإن المسئولية هي شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربه ​​​​​​​ حينما يفرط في القيام به، ويتساهل في أدائه على الوجه الذي يستطيعه، والمسئولية تكليف  بما يطيق بحيث لا يقعد الإمام عن سبب من أسباب القيام بهذا العمل على الوجه المطلوب وهو في طاقته ووسعه إلا ويبذله؛ لأنه متمم لعمله، وسبب موصل إلى إتقانه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وإذا كانت المسئولية مرتبطة بوسع الإنسان وطاقته لأنها تكليف، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؛ فإن الأئمة كما هو معلوم ليسوا على درجة واحدة من القدرات والمواهب حتى نوحد مسئولية الجميع، مغفلين تفاوت قدراتهم، وتباين مواقعهم؛ ذلك أن منهم الإمام العالم، ومنهم طالب العلم، ومنهم دون ذلك، بل لا نبالغ إذا قلنا إن منهم من هو في عداد الأميين الذين لا يحسنون قراءة الفاتحة، وإذا أحسنوا القراءة فإنهم لا يعلمون كثيراً من أحكام الصلاة على الوجه الذي يمكنهم من القيام بالإمامة على وجهها الصحيح.

القدر المشترك من المسئولية:

وبناء على ما تقدم فإن المسئولية تختلف باختلاف أحوال الأئمة، ولكنه يوجد قدر مشترك من المسئولية يتحمله الجميع بمختلف أحوالهم، ولا يصح لأي إمام أن يفرط في هذا القدر من المسئولية بغير عذر، ويمكن إجمال هذا القدر المشترك في الأمور الآتية:

أولاً: الإمام مكلف من قبل ولي الأمر بعمل أعطي عليه رَزق1؛ ليقوم به على النحو الذي طلب منه، إمامة الفروض، أو إمامة الفروض والجمعة، أو إمامة الجمعة فقط، أو إمامة الاحتياط متى ما احتيج إليه في أي وقت، أو إمامة بعض الفروض، والمهم في هذا كله أنه قد أسند إليه عمل، وأعطي عليه رزقاً معيناً، فهل يصح له أن يتساهل في هذا العمل؟

إن تساهله في أداء هذا العمل الذي قد اؤتمن عليه يعد إضاعة للأمانة وتفريطاً يؤاخذ عليه، وربما يكون قدوة سيئة لبعض الناس يقتدون به في إضاعة أعمالهم، والتفريط في أماناتهم، فيكون عليه وزر التفريط في العمل، ووزر الاقتداء به في ذلك.

ولقد شاع في الناس مقولة القائلين بأن إمامنا يتخلف عنا أوقاتاً كثيرة، ورأينا من اقتدى بإمامه في إضاعة العمل الذي أسند إليه؛ ذلك أن الإمام قدوة، وله عند الناس مكانة تجعلهم ينظرون إليه دائماً في أقواله وأفعاله، فإما نظرة حب وإعجاب فهو قدوة حسنة، وإما نظرة بغض وازدراء فهو قدوة سيئة لضعيف الإيمان، وهو على من عداهم ثقيل غير محتمل.

ثانياً: كسب قلوب الناس، وجعلهم يحبون التردد على المساجد، ويحافظون على الجماعة؛ مطلب عظيم لا يخفى على أحد ثمراته الطيبة، وضد ذلك مفسدة يجب دفعها، وقطع أسبابها، وهذه مسئولية الإمام الذي إذا أخلص نيته، وفقه سنة نبيه محمد  في مراعاة أحوال المصلين بحيث لا يشق عليهم فيطيل بهم، ويفتنهم، وينفرهم؛ فإنه يكون بذلك محبباً ومؤثراً في الناس، ومرغباً لهم في هذا الفضل العظيم.

ولذا حث النبي  على التجوز، وحذر في موعظة قوية من التنفير فقد جاء عن أبي مسعود  أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا! فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى  بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ2. وعن جابر  قال: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ  يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ  ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ  فَقَالَ: فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ، أَوْ قَالَ: فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ، قَالَ عَمْرٌو: لَا أَحْفَظُهُمَا”3. وقد جاء في رواية أخرى للبخاري أن النبي  قال له: فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ، وَالضَّعِيفُ، وَذُو الْحَاجَة.

فمن هذه النصوص ندرك أن تطويل الصلاة فتنة، وتنفير للناس عن الصلاة في جماعة، ولا يخفى ما في هذا من المفاسد، والتسبب في تعطيل الواجب، وحرمان الناس من فضل الجماعة، ولذلك غضب النبي  غضباً شديداً كما في حديث أبي مسعود  ، ووصف معاذاً  بأنه فتان  بهذا الصنيع لكي يحذر منه.

ولا يعني هذا أن يخفف الإمام الصلاة إلى درجة إسقاط الواجب بحجة مراعاة الناس كما يفعل بعض الأئمة، فإن في هذا مفسدة أعظم، ولكن الأمر يعني التزام الوسطية في الأمر، والشعور بالمسئولية وهو يؤدي هذا العمل، ومحاولة كسب الناس، والعمل على أن يحبب لهم القيام بما فرض الله عليهم، مع إتمام الصلاة في جميع ما أوجبه الله فيها من القراءة، والطمأنينة، وإتمام الركوع، والسجود، والتسبيح، والتحميد، وسائر ما يجب.

ونحن نجد أحياناً من بعض الأئمة من هو على طرفي نقيض، فنجد من يطيل بهم، ويشق على الكبير والضعيف، والمريض وذي الحاجة، فينفرهم وينفر غيرهم، فلا يصلي وراءه إلا القليل، ونجد آخر يسارع في الصلاة إلى درجة لا يتمكن معها المأموم من أداء الواجب، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

يقول الإمام ابن حجر – رحمه الله – عند حديث معاذ: وفي حديث الباب من الفوائد استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وأما من قال: لا يكره التطويل إذا علم رضا المأمومين، فيشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة كما في حديث الباب، فعلى هذا يكره التطويل مطلقاً إلا إذا فرض في مصلىً بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم4.

وقد أشار – رحمه الله – في موضع آخر أن هذا افتراض لا يناط به الحكم، فإن الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، وعلى هذا ينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً5.

ويرد إشكال يحتاج إلى توضيح، وهو وضع حد للتخفيف حتى لا يقع الإمام في محظور أعظم من المحظور المترتب على التطويل كما سبق التنبيه عليه، وقد ذكر ابن حجر عن ابن دقيق العيد أن التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم طويلاً بالنسبة لعادة آخرين.

قال ابن حجر6: “وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي  قال له: أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ7 وفي رواية: وَاقْدِرْ النَّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ8.

ومن هنا نأخذ أن الإمام يقدر الأمر بنفسه، فهو أعرف بجماعته، وأقدر القوم بأضعفهم، وهنا تقع المسئولية عليه في تقدير الأحوال، وأخذ الحيطة والحذر أثناء قيامه بهذا العمل الجليل، والله أعلم.

ثالثاً: محبة الناس لإمامهم مبنية على ثقتهم به، وعظم مكانته عندهم، ومن ثمرات ذلك تأثير الإمام في المأمومين، واستماعهم لتوجيهاته، وانشراح صدورهم لما يقوله أو يريده منهم، وهذا يعد جزءاً مهماً من مسئولية الإمام، فالمصلون يثقون بالإمام الكفء، صاحب السيرة الحميدة، والخلق الحسن، الذي يقول ويعمل، ويلتزم في أقواله وأعماله هدي المصطفى ، ويقتدي به في خلقه الحسن، وصفاته العظيمة من الصبر والشفقة، والحلم والعدل، والكرم، والحياء والصدق، وسائر الأخلاق الحميدة.

ومما يؤسف له أن بعض الأئمة إذا حصل كره من الجماعة لإمامته لا يهتم بذلك، وهذا وإن لم يكن معتبراً على كل حال إلا أنه قد يكون الباعث على هذا الكره أمراً وجيهاً، وليس لأمر دنيوي، كأن يجرب عليه الجماعة كذباً في الحديث، أو بخلاً أو خلفاً في الوعد، أو جوراً في الخصومة، أو سوء معاملة، أو سوء جوار، أو فحشاً في القول، أو تعاملاً برباً، أو بغش، أو مكر واحتيال، ونحو ذلك مما يقع أحياناً فيه بعض الأئمة من مجاراة العصاة في سلوكهم، أو منازلهم، أو علاقاتهم، وهنا تعظم المسئولية، وعلى الإمام أن يعيد النظر في شأنه بنفسه، وفي الحديث: ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ9.

وقد سئل الإمام ابن تيمية – رحمه الله – عن رجل يؤم قوماً وأكثرهم له كارهون، أجاب – رحمه الله – بقوله: إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه مثل: كذبه، أو ظلمه، أو جهله، أو بدعته ونحو ذلك، ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه مثل أن يكون أصدق وأعلم، وأدين فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الإمام الذي يحبونه، وليس لذلك الإمام الذي يكرهونه أن يؤمهم كما في الحديث عن النبي أنه قال: ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دباراً، ورجل اعتبد محرراً والله أعلم10.

وبناء على ما تقدم يتعين على الإمام الذي لا يريدونه إماماً لهم إن كان كره الجماعة لإمامته لسبب وجيه أن يعمل جاهداً على التخلص من هذا السبب بتصحيح وضعه، وإزالة أسباب البغض له لكي يؤدي رسالته، ويقوم بعمله على الوجه الصحيح.

وقد رأينا من كره الناس إمامته لأسباب وجيهة وهو غير مكترث بذلك مع ما بذل له من النصح، إلا أنه أصر وعاند، فمقته الناس، وربما صار فتنة للقوم الظالمين، وربما هجر المصلون حتى الذين فيهم خير وصلاح الصلاة في مسجده، وفي هذا من المفاسد ما لا يصح إغفاله وتجاهله، ولو قدر المسئولية حق قدرها لما وقع في مثل هذه الحال؛ لأنه إما أن يصحح وضعه بإزالة أسباب البغض الوجيهة سواء في أدائه لهذا العمل، أو في سلوكه خارج العمل، وإما أن يسلم العمل إلى من هو أفضل منه، وأولى به، والله أعلم11.

هذا ما تيسر جمعه وبيانه مما يجب على الإمام معرفته من المسؤولية التي حُمِّلها.

وأخيراً نسأل الله – جل وعلا – أن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا للعمل لما يرضيه، اللهم تقبل صلاتنا تامّة، واغفر لنا وارحمنا، ووفق الرُّعاة من الدُّعاة وغيرهم لما يصلحهم ويصلح أحوال رعيتهم، وأعنَّا اللهمَّ على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، وصلِّ اللهم وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


1 الفرق بين الأجر والرزق: أن الأجر يؤخذ من شخص بعينه على المساومة والمعاوضة، أما الرزق فيؤخذ من بيت المال، أو من الأوقاف العامة المحبسة على مصالح المسلمين، وإقامة شعائر الدين، وليس فيه مساومة، ولا معاوضة عن أداء الصلاة التي هي أفضل القرب. انظر: كتاب مسؤولية إمام المسجد نقلاً عن: تعليق الشيخ محمد حامد فقي حاشية الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 98 وانظر مجموع الفتاوى 23 /366 في حكم أخذ الأجرة على الإمامة.

2 رواه البخاري 661 (ج3 / ص117).

3 رواه البخاري 660 (3 /115).

4 فتح الباري لابن حجر (3 /45).

5 فتح الباري لابن حجر (3 /47).

6 المرجع السابق.

7 رواه أبو داود 447 (2 /131) والنسائي 666 (3 /59)، وصححه الألباني في تحقيق سنن أبي داوود برقم (531).

8 سنن ابن ماجه 977 (3257)، وصححه الألباني في تحقيق سنن ابن ماجة برقم (987).

9 رواه الترمذي 328 (2 /99) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (1122).

10 مجموع فتاوى ابن تيمية (5/357) والحديث رواه أبو داود 501 (2 /208) قال العلامة الألباني في كتابه “تمام المنة (1 /283) قلت: هذا إسناده ضعيف فيه مجهول وآخر ضعيف كما تراه مبينا في “المشكاة” (1123) و”ضعيف أبي داود” (92) لكن الفقرة الأولى منه صحيحة لها شواهد عدة خرجتها في “صحيح أبي داود” (607) منها حديث ابن عباس الذي هو في الكتاب قبله.

11 المصدر: كتاب مسؤولية إمام المسجد لـ(علي بن حسن بن ناصر عسيري) بتصرف يسير.