الدور التعليمي والتربوي لإمام المسجد
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فإن مسئولية إمام المسجد سواء كان في المدينة أو القرية تجاه المصلين ذات جوانب عديدة، وهي بحسب دوره التعليمي، والتربوي، والاجتماعي، وهذه الجوانب الثلاثة مأخوذة من طبيعة رسالة المسجد الذي يستمد مكانته الربانية من كونه مضافاً إلى الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (سورة الجن:18).
وهو أشرف البقاع، وأحبها إلى الله، ففيه يذكر اسم الله، ويسبح له، وتقام الصلاة قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (سورة النور:37).
ولما كان المسجد بهذه المكانة بدأ به النبي ﷺ قبل أن يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء، حيث بدأ ببناء مسجد قباء وهو أول مسجد بُنِيَ في المدينة، وأول مسجد بُنِيَ لعموم الناس في هذه الملة كما ذكر الإمام ابن كثير – رحمه الله –1.
ثم لما واصل سيره إلى قلب المدينة المنورة – المسماة آنذاك بيثرب – كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده، ثم الشروع في بنائه، وقد كان هذا هو الأساس الأول لبناء الدولة المسلمة؛ حيث قامت على ثلاثة أسس، والثاني منها هو المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، والثالث هو تلك المعاهدة التاريخية التي كانت نتيجتها أن تكون القيادة للرسول ﷺ على المسلمين، والمشركين، واليهود.
إن الكاتب مهما تحدث عن مكانة المسجد، ومهما أورد من النصوص في ذلك؛ فإن وظائف المسجد أكثر إظهاراً لمكانته في الإسلام، فعلى سمائه ترتفع الدعوة إلى الإيمان، والعمل الصالح، وفي صحنه يؤخذ الإيمان، ويؤدى العمل الصالح، ومن على منبره يعلم الإيمان، والعمل الصالح، وفيه يدعى إلى الجهاد في سبيل الله، وفيه تنظم كتائب الجهاد في سبيل الله، ومنه تنطلق جحافل الإيمان تحت راية الجهاد في سبيل الله.
وفي المسجد تتعلم الأجيال الصاعدة كيف تهدأ وتسكن، وترعى حرمة المساجد، فلا صياح، ولا صخب، ولا حديث بأصوات مرتفعة، ولا بيع ولا شراء، ولا نشدان ضالة ونحو ذلك.
في المسجد تتعلم الأجيال النظام، والدقة، وفي المسجد يتعلم الناس التواضع، والمساواة، والعطف، والبر، والالتزام بكل واجب، والطاعة والامتثال، وفي المسجد يتعلم الناس صغاراًَ وكباراً العلم، ويتفقهون في أمور دينهم، ويعلمون من أحوال إخوانهم المسلمين في البلاد النائية ما لا بد أن يعلموا عنهم حتى يمدوا لهم يد العون إن كانوا في حاجة إلى عون، والرأي والمشورة إن كانوا محتاجين إلى رأي ومشورة. وفي المسجد يحدث التعارف بين المسلمين، وينمو التآلف والتواد، وفي المسجد تصقل الشخصية المسلمة، ويزول عنها ما يحتمل أن يكون قد علق بها من عيوب اجتماعية كالانعزالية، والتواكلية، والأنانية، حيث يهيئ المسجد لرواده مجال الانطلاق في المجتمع، والتعرف على الناس، والتآخي معهم، ومناصرتهم ما داموا على الحق.
مما سبق يتضح أن المسجد جامعة عظيمة ينطلق منها المد الإسلامي ليعم الدنيا بنوره، وعدله، وأنه المحضن الأول لكل نهضة وإصلاح، وأن رسالته تعليمية، وتربوية، واجتماعية، وهذه الجوانب الثلاثة لا يمكن أن تقوم بدون قائم عليها، فهل المسجد المبني من الطوب أو الحجارة، والمشيد أحياناً على أحسن بناء؛ هو الذي يتولى مهمة التعليم، والتربية وغيرها؟
إننا نرى أحياناً مساجد قد شيد بناؤها، واتسعت أروقتها، وبدت منائرها ماثلة للعيان من مسافات بعيدة، ولكننا لا نرى أي جانب من الجوانب السابقة قد حظي فيها بالعناية والاهتمام، ونرى أحياناً مساجد بنيت بناء عادياً ليس فيه أدنى كلفة، لكنه قد تخرج فيها رجال أفاضل، وحظيت تلك الجوانب بأهمية كبرى، وعناية فائقة؛ ذلك أن المساجد هي بالقائمين عليها من مسئولين وأئمة، ومن هنا فإن مسئولية إمام الجامع كبيرة جداً، وقد لا يستطيع – وهذا هو الغالب – القيام بها وحده، بل لا بد له من معاونين.
إذن فمهمته تعليمية، وتربوية، واجتماعية، ومن الضروري أن يرسم المنهج بالتنسيق مع الجهة المسئولة في منطقته، ويضع برنامج هذا الجامع المتعدد الجوانب، وينفذ ما يستطيع بنفسه، ثم يكون حلقة وصل فيما يعجز عنه بنفسه بين الجامع وأهل القدرة والمسئولية لينفذ رسالته، ويؤدي وظيفة المسجد المتكاملة. أما الجانب التعليمي والتربوي فنجعله في الأمور الآتية:
أولاً: إقامة الدروس العامة التي من شأنها تفقيه المسلمين، وتعليمهم حقائق دينهم من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ، مع العناية بسلامة العقيدة من الخرافات، وسلامة العبادة من البدع، وسلامة الأخلاق والآداب من الغلو والتفريط.
ثانياً: إقامة الندوات والمحاضرات لمواجهة شبهة، أو فكر منحرف، أو حل مشكلة اجتماعية ينتدب لها المتخصصون، أو التركيز على جوانب تتعلق بمناسبة معينة، أو الحديث في موضوع من شأنه تثبيت معنى الأخوة الإسلامية، ومقاومة النزعات والعصبيات العنصرية المفرقة للأمة الواحدة.
ثالثاً: إنشاء مكتبة تضم مجموعة من الكتب المنوعة، مع التركيز فيها على كتب السلف المعتمدة، وتحديد أوقات المطالعة فيها، وإسناد الإشراف عليها إلى شخص له خبرة بالكتب، وثقافة واسعة، وبعد نظر؛ حتى لا تكون المكتبة وسيلة لنشر الكتاب الذي قد امتلأ بالمفاهيم المغلوطة، أو موضوعات الإثارة، أو قضايا الخلاف التي لا تفيد، ويكون الإشراف والمسئولية على إمام المسجد.
رابعاً: فتح حلقات تحفيظ القرآن بالتنسيق مع جماعة تحفيظ القرآن الكريم، لتكليف المعلم، ويتولى الإمام وأسرة المسجد الإشراف، والمتابعة كما هو حاصل في بعض الجوامع التي وفقت بإمام نشيط، وله اهتمامات وعناية بكتاب الله ، وبأبناء الحي أو القرية.
خامساً: يقوم الإمام المتخصص القادر بالتنسيق مع الجهة المعنية بفتح حلقات لتعليم الراغبين سواء كانت هذه الدروس التخصصية في فروع متعددة، أو في مجال معين يحدده هو، كأن يركز على دروس العقيدة؛ لأن له بذلك اهتماماً أكثر من غيره، أو على جانب الفقه، أو التفسير، أو الحديث، أو السيرة.
وأما الذي لا يستطيع القيام بالدروس العامة، أو التخصصية؛ فإن عليه التنسيق مع الجهة المسئولة، وأن يرتب درساً يكون في الأسبوع لعالم من العلماء أو في الأسبوعين، خاصة إذا لم يكن في المنطقة شيء من هذا، ولا نقصد تحويل جميع المساجد الجوامع إلى دروس مستمرة، ومتنوعة؛ لأن هذا لا يتأتى، وقد يزيد على الحاجة، فيمل الناس، وإنما نقصد اختيار مسجد من المساجد، وتركيز الدروس فيه، مع التنسيق بين أئمة الجوامع، هذا في الدروس الثابتة، أما إقامة محاضرة أو ندوة يدعى فيها العلماء فإن المساجد كلها بحاجة، وهذا ممكن وسهل جداً؛ خاصة وأن الله قد ميز كثيراً من بلدان المسلمين في هذا الزمن بكثرة الدعاة طلاب العلم الغيورين، الذين لديهم الاستعداد للقيام بالمحاضرات، والندوات، والدروس في مختلف الجهات. ولا يفوتنا هنا أن نبين دوراً آخر ليس أقل أهمية مما سبق مما ينبغي على إمام الجامع أن يهتم به كغيره من الأدوار؛ بل هو متصل بالدور التعليمي والتربوي, وبه تتكامل الأدوار، ذلكم الدور هو الدور الاجتماعي، والدور الاجتماعي نعني به الأمور الآتية:
أولاً: التماس الحل لمشكلة تقع بين اثنين من جماعة المسجد، والصلح بينهما، وقطع أسباب الخصومة والخلاف.
ثانياً: تلمس أحوال الفقراء والمساكين المحتاجين إلى دعم ومساعدة، وجمع المال الذي يعينهم على الخروج من المأزق الذي يقعون فيه.
ثالثاً: عقد لقاءات من خلال الزيارة الشهرية – أو بحسب ما يتفقون عليه شهرية، أو أسبوعية، أو غير ذلك المهم أن يكون هناك تواصل ومحبة -، والتي يتم فيها التعارف والتآلف، وإزالة ما في النفوس أحياناً، والدعوة إلى مناسبة تقام يجتمع فيها جماعة المسجد، واستغلال المواسم مثل: رمضان، والأعياد؛ ليتم فيها الزيارة، ويحصل بها التواصل، والمحبة، والإخاء.
وفي كل هذه الأمور يقع جزء كبير من المسئولية على إمام المسجد فهو القدوة والمحرك للجماعة إذا حرص على ذلك، ولا يخفى ما لهذا من الفوائد العظيمة، وهو في كل عمل يقوم به يحتاج إلى أبرز الجماعة ليعاونوه فيما يقوم به2.
نسأل الله الكريم أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم، والحمد لله رب العالمين.