يا إمامنا لا تنقرها كنقر الغراب!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وسيد الخاشعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين1 أما بعد:
إن كثيراً من المصلين لا يعرفون فائدة الصلاة حقيقة، ولا يقدرونها حق قدرها، ولذلك ثقلت عليهم، ولم تعد قرة لأعينهم، ولا راحة لأنفسهم، ولا نوراً لقلوبهم، ترى كثيراً منهم ينقرون الصلاة نقر الغراب لا يطمئنون فيها، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء لا صلاة لهم، ولو صلوا ألف مرة؛ لأن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها، ولذلك قال النبي ﷺ للرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ2، فصلى عدة مرات، وكل مرة يقول له النبي ﷺ : ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ حتى علَّمه النبي ﷺ، وأمره بالطمأنينة.
وتجد كثيراً من الناس إن لم يكن أكثر الناس يصلي بجسمه لا بقلبه، جسمه في المصلى وقلبه في كل واد، فليس في قلبه خشوع؛ لأنه يجول ويفكر في كل شيء، حتى في الأمور التي لا مصلحة له منها، وهذا ينقص الصلاة نقصاً كبيراً، ويجعلها قليلة الفائدة للقلب بحيث يخرج هذا المصلي من صلاته ولم تزده إيماناً ولا نوراً، وقد فشا هذا الأمر (أعني الهواجيس في الصلاة)، ولكن الذي يعين على إزالته هو أن يفتقر العبد إلى ربه، ويسأله دائماً أن يعينه على إحسان العمل، وأن يستحضر عند دخوله في الصلاة أنه سيقف بين يدي ربه وخالقه الذي يعلم سره ونجواه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وأن يعتقد بأنه إذا أقبل على ربه بقلبه أقبل الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، وأن يؤمن بأن روح الصلاة ولبها هو الخشوع فيها وحضور القلب، وأن الصلاة بلا خشوع القلب كالجسم بلا روح، وكالقشور بلا لب3.
وإننا عندما نتحدث عن الخشوع في الصلاة، وأدائها تامة، وأن هذا الأمر مطلوب من الجميع؛ فإن من المسؤولية التي تقع على عاتق إمام المسجد خاصة هو أن يتنبه لهذا الأمر؛ حيث أن مسئولية إمام المسجد من المسئوليات الجسيمة التي لا يعيها كثير من المسلمين في عصرنا هذا، بل ولا يعيرها أي اهتمام الكثير ممن يقومون بالإمامة في أيامنا هذه – إلا من رحم الله -.
وإذا أردنا أن نلقي الضوء على أحد هذه الجوانب فأول ما يلفت انتباهنا هو الحديث الذي رواه الصحابي الجليل أبو هريرة : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَرَدَّ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا4.
وإذا ما نظرنا إلى موقف النبي الكريم ﷺ في الحديث الذي ورد آنفاً فإنه رغم أن النبي ﷺ كان جالساً مع أصحابه يحدثهم؛ إلا أنه لم تفت عليه أن يراعي شئون المصلين في المسجد، والنظر في صحة صلاتهم، بل ولم يكتف بذلك مرة بل فعلها ثلاث مرات وهو يراقب هذا الرجل.
والمتمعن في سيرة الرسول ﷺ وصحبه الكرام يجد أن القيام بمهام الإمامة ليس عبارة عن طقوس وحركات يؤديها الإمام، ويكررها المأمومون خلفه؛ بل يتعين عليه أن يراعي من هم حوله، فهذا من مسئولياته كما قال الرسول ﷺ : كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ5. أخي إمام المسجد:
إن مما ينبغي عليك كإمام للمصلين أن تهتم بهم، وتعلمهم كيف يؤدون الصلاة بإتمام شروطها، وأركانها، وواجباتها، وسننها، ومن الوسائل المهمة والتي تعتبر أمانة في عنقك: أن تؤدي الصلاة تامة فأنت مؤتمن عليها؛ حيث أن الناس يقتدون بك، ويفعلون كما تفعل أنت، فإن كنت ممن يتم صلاته فقد صلحت صلاتك، وأجرت على ذلك وخاصة أنه يقتدي بك من حولك ممن يصلون معك، وإلا فإنك تفسد صلاتك وصلاة من معك حيث أنهم يقتدون بك، وإلا فاعلم أنك على خطر عظيم؛ لأنك ضامن لصلاة المأمومين، وتذكر هنا حديث المصطفى ﷺ: الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدْ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ6 قال في الفتح الرباني: ضامن لصلاة المأمومين لارتباط صلاتهم بصلاته فساداً وصحة، فهو الأصل وهم الفرع، ولهذا الضمان كان ثواب الأئمة أكثر، ووزرهم أكثر إذا أخلوا بها. وهل تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة إمامه أم لا؟ فالجواب هو: أنه قد اتفق العلماء على عظيم ثواب الأئمة إذا أصابوا وأدوا هذا العمل على الوجه الصحيح، ووقوع الوزر إذا أخلوا بها، أما فساد صلاة المأموم لفساد صلاة الإمام فهي مسألة مختلف فيها، وعندما فصَّل الإمام ابن تيمية – رحمه الله – الحديث فيها، وذكر الأقوال في المسألة؛ رجح قولاً ثالثاً وعدَّه أوسط الأقوال وهو: أن صلاة المأموم منعقدة بصلاة الإمام، لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما، فأما مع العذر فلا يسري النقص، فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة، والمأموم معذور في الائتمام، قال – رحمه الله -: وهذا قول مالك، وأحمد وغيرهما، وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة، والله أعلم7.
وعلى كلٍّ فنوصيك أخي المصلي – وخاصة أنت أيها الإمام – أن تخشع في صلاتك ولا تنقرها كنقر الغراب، وعوِّد نفسك الخشوع فذلك خير عظيم، وله نتائج عظيمة نافعة في الدنيا والآخرة، ويكفيك نعمة أنك بخشوعك في صلاتك، وإقبالك على ربك؛ أن الله تعالى يقبل عليك قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “وليس حظ القلب العامر بمحبة الله، وخشيته، والرغبة فيه، وإجلاله، وتعظيمه؛ من الصلاة كحظ القلب الخالي الخراب، فإذا وقف الاثنان بين يدي الله في الصلاة وقف هذا بقلب مخبت خاشع له، قريب منه، سليم من معارضات السوء، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة، وسطع فيه نور الإيمان، وكشف عنه حجاب النفس، ودخان الشهوات؛ فيرتع في رياض معاني القرآن، وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات، وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم، وتفرد الرب – سبحانه – بنعوت جلاله، وصفات كماله، فاجتمع همه على الله، وقرت عينه به، وأحس بقربه من الله قرباً لا نظير له، ففزع قلبه له، وأقبل عليه بكليته، وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربه، فإنه – سبحانه – أقبل عليه أولا فانجذب قلبه بإقباله، فلما أقبل على ربه حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول8.
واعلم – أخي الإمام – أنه ليس من كانت الصلاة ربيعاً لقلبه، وحياة له، وراحة وقرة لعينه، وجلاء لحزنه، وذهاباً لهمه وغمه، ومفزعاً له إليه في نوائبه ونوازله؛ كمن هي سحت لقلبه، وقيد لجوارحه، وتكليف له، وثقل عليه، فهي كبيرة على هذا، وقرة عين وراحة لذلك قال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (سورة البقرة:45-46) فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلو قلوبهم من محبة الله تعالى، وتكبيره وتعظيمه، والخشوع له، وقلة رغبتهم فيه؛ فإن حضور العبد في الصلاة، وخشوعه فيها، وتكميله لها، واستفراغه وسعة في إقامتها وإتمامها على قدر رغبته في الله9.
إن للإمام دور كبير، وواجب عظيم؛ إذا قام به حصل الخير الكثير للمصلين، فينبغي عليه مراعاته، وعدم الإخلال به.
وأخيراً نسأل الله – تعالى – علماً نافعاً، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع، اللهم إنّا نعوذ بك من هؤلاء الأربع, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
1 من مقدمات كتاب خطب مختارة (اختيار وكالة شئون المطبوعات والنشر بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد).
2 سيأتي تخريـجه بطوله لاحقاً.
5 رواه البخاري -2368- (8/489) ومسلم -3408- (9/352) واللفظ للبخاري.
6 رواه أبو داود -434- (2/110) والترمذي -191- (1/349) وأحمد -6872- (14/413) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2787).
7 كتاب مسؤولية إمام المسجد لـ(علي بن حسن بن ناصر عسيري).
8 الصلاة وحكم تاركها لـ(ابن القيم).
9 المرجع السابق.