مسئولية الإمام العالم

 

 

 

 

مسئولية الإمام العالم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه الغر الميامين, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين… أما بعد:

فإن مسؤولية الإمامة لها قدر مشترك يلزم جميع أئمة الصلوات الذين يؤمون المصلين في الصلوات,  كما أن هناك مسؤولية يتحملها إمام دون إمام أي أنها مسؤولية تلزم بعض الأئمة دون بعض, وحديثنا هنا سيكون حول القسم الأخير لا الأول, أي المسؤولية الأخص, وهذه المسؤولية ترتبط بذات الشخص، ومركزه في الناس، وبالمجتمع المحيط به الذي يحمل بعض أفراده قدراً من العلم، والثقافة والمراكز المرموقة في المجتمع, وذاك هو الإمام العالم.

فالإمام العالم الذي يشار إليه بالبنان، ويؤخذ عنه العلم والفتوى ويقصد مسجده جمع كبير من الناس فيهم طلاب العلم والمثقفون، وذوو المكانة، وغيرهم، يتحمل من المسئولية قدراً أعظم ممن ليس كذلك؛ ولهذا لما قيل لعبد الملك بن مروان -رحمه الله-عجل بك الشيب قال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة”1!

ذلك لأنه علم عظم المسئولية، وأن دور الإمام الذي على شاكلته ليس محصوراً في إمامة الناس في الصلاة، وإنما هو في دور المعلم والمربي والمفتي، والمصلح والمحذر من المنكر قبل أن يقع، والداعي لإزالته إذا وقع, والعامل على حل المشكلات التي تورث الخصومات, والملتمس لأحوال الفقراء والمساكين، وتوجيه النداءات لمساعدة المنكوبين والمصابين، وبإجمال يعيش آمال الأمة وآلامها، وتلك والله مهمة عظيمة لا يدركها إلا العظماء، من العلماء العاملين الذين هم مبعث خير، ومصابيح هداية، وأدلة طريق, فهم لأخوانهم كالشمس للدنيا، والعافية للبدن كما قال الإمام أحمد في الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى.

ومن المعلوم أن العلماء ورثة الأنبياء وهم دعاة إلى الله، يذبون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وعدوان الظالمين، وهم أهل الخشية من الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(28) سورة فاطر.

وهم أهل الشفقة والنصح لعامة المسلمين ولأئمتهم، وهم أهل التجرد من حظوظ النفس وشهواتها، تكشف حججهم الساطعة شبهات الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، وتلهج ألسنتهم بالصدق عند العدوان فيضعون الأمور في مواضعها.

فإذا أنعم الله على الأمة بتولي علمائها لإمامة المساجد فتلك من نعم الله العظيمة التي تعد بإذن الله تعالى من أهم وسائل النجاة من عقوبة الله وغضبه.

وإذا كانت رسالة العالم في الأصل عظيمة فإنها تزداد حين يتولى الإمامة، وإمامته ليست قاصرة على القيام بالخطب والمواعظ، وإنما هي تعليم في مختلف علوم الشريعة في فقه الإيمان، وفقه الأحكام، وغيرهما من علوم الغاية أو الوسيلة التي يحتاجها الناس بمختلف فئاتهم.

والإمام العالم يتولى الفتوى، ويجيب على أسئلة الناس ويعالج مشكلاتهم بأسلوب علمي رصين ووعظي مؤثر، والعالم حين يقوم بهذا يستذكر هدي النبي الذي كان مسجده مقراً لتعليم الناس قولاً وعملاً، وكان أصحابه يتحلقون حوله ليسمعوا حديثه، بل كان   يعلم الناس من على  المنبر, ففي صحيح مسلم عن سهل بن سعد   أنه قال: “ولَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ   قَامَ عَلَيْهِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ, ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ, ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي)2.

وكان   يسأل أصحابه وهو يعلمهم ليشحذ أذهانهم، فتتهيأ للإصغاء لما يقول لهم، ويضرب لهم الأمثال ليقرب لهم المعاني التي يريد أن يفهمهوها، كما روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عَنْ النَّبِيِّ   قَالَ: (إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا  يَسْقُطُ وَرَقُهَا, وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ, حَدِّثُونِي مَا هِيَ)؟ قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ, ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (هِيَ النَّخْلَةُ)3.

وكان الرجل يأتيه من البادية، وهو   جالس في المسجد يعلم أصحابه فيسأله عن بعض أحكام الإسلام فيعلمه، وينصرف.

وكان   يجلس لأصحابه في المسجد فيسألونه ويجيبهم، ولم يكن الأمر مقصوراً على التعليم والفتوى، ولكن كان مسجده مكاناً للصلح بين المتخاصمين، ولتطبيق حدود الله، وللفصل في القضايا، ولقضاء حوائج الناس ومتابعة الفقراء وإطعامهم.

وعندما يقوم العالم الإمام برسالته، ويؤدي دوره القيادي في المجتمع، وفق هدي المصطفى   نجد أثر ذلك واضحاً في الناس، إذ المساجد جامعات عظمى يتخرج فيها العلماء العاملون، والرجال الصالحون، الذي يسيرون في الناس سيراً حسناً،وينهجون نهجاً عظيماً؛ لأن تعليم المساجد يختلف عن تعليم المدارس، والفرق بين تعليم المسجد وتعليم المدارس من وجوه:

الوجه الأول: أن التعليم في المسجد يكتنفه جو عبادي، يشعر المعلم فيه والمتعلم،والسامع أنهم في بيت من بيوت الله فيكونون أقرب إلى الإخلاص والتجرد، والنية الحسنة، لا يقصدون في الغالب من التعلم والتعليم إلا وجه الله، وأهدافهم هي التفقه في الدين، وأداء العمل على وجهه الصحيح والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، لا يرجون من وراء ذلك مغنماً ولا جاهاً، ولا منصباً، ولذلك تجد غزارة العلم وحفظه،وإتقانه عند كثير من علماء المسجد في أوقات قصيرة، بخلاف طلاب المدارس فإنهم في الغالب لا يصلون إلى مرتبة علماء المساجد في ذلك، والواقع التاريخي يشهد بذلك، فهل خرجت المدارس والمعاهد والجامعات كالأئمة والمحدثين والفقهاء والنحويين ومن شابههم؟

الفرق الثاني: أن التعليم في المساجد أشمل حيث يدخل المسجد من شاء من العلماء المؤهلين ليعلم الناس، كما أنه يدخله من شاء من المتعلمين أو المستمعين، فيستفيد في المسجد جمع غفير: العالم والمتعلم والمستمع على حسب ما عنده من الاستعداد والوقت,بخلاف المدارس فلا يدخلها إلا عدد محدود من المعلمين والمتعلمين، ولا يؤذن لمن يريد أن يتفقه في الدين بالتردد عليها.

لذلك اضطرت الدول في العصر الحديث إلى إيجاد مدارس لمحو الأمية، وهي شبيهة بالمدارس الأخرى، لا تفي بحاجة الناس كالمساجد، فالمساجد جامعات شعبية صالحة للمتعلمين على جميع المستويات.

الفرق الثالث: أن علماء المساجد وطلابها أقرب إلى عامة الشعوب من طلاب المدارس والجامعات، حيث تجد عامة الناس يقبلون إلى عالم المسجد وطلابه ويستفيدون منهم، كما تجد عالم المسجد وطلابه يهتمون بعامة الناس في التعليم والدعوة أكثر من غيرهم، ولا شك أن الارتباط بين طلاب العلم وجمهور الشعب له مزاياه الكثيرة في التعليم والدعوة والتوجيه.

ومن هذه الفروق نعلم مدى أهمية رسالة الإمام العالم، وعظم مسئوليته، وحاجة الناس إليه على مختلف فئاتهم، والله أعلم4.

نسأل الله أن يوفق الجميع إلى ما يحب ويرضى, وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله لرب العالمين.


1 سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي

2 رواه البخاري -866- (3/450) ومسلم -847- (3/154).

3 رواه البخاري -60- (1/109) ومسلم -5027- (13/420).

4 مسؤولية إمام المسجد لـ (علي بن حسن بن ناصر عسيري)  ومنها أسطر من خطبة للشيخ ابن حميد إمام المسجد الحرام أثابه الله جعلها صاحب الكتاب ضمن موضوعه لما لها من فائدة عظيمة.