تقــديم الأكمل
نحمدك اللهم على ما آتيتنا من النعم، ونشكرك يا من خلقتنا وأوجدتنا من عدم، ونصلي ونسلم على عبدك ورسولك محمد النبي الأكرم، وعلى آله وصحبه ومَن سار على طريق الحق والتزم، أمَّا بعدُ:
فإنَّ من مسائل الإمامةِ في الصَّلاةِ مسألةَ تقديم الأكملِ من حيث صفة الحرية، والعبودية، والحضر، والبداوة وغيرها، فهل يقدم الحرُّ على العبدِ، والحضريُّ على البدويِّ ونحوهم، أم أنَّ الاعتبار بالأقرأ والأعلم وغير ذلك من الصفات؟ هذه المسائلُ تكلَّم فيها الفقهاءُ:
تقديمُ الحرِّ على العبدِ
أصحاب المذاهب الأربعة على أنه إذا اجتمع حر وعبد فإن الحر أولى بالإمامة قال السرخسي: “وأما العبد فجواز إمامته؛ لحديث أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: عرست وأنا عبد، فدعوت رهطاً من أصحاب رسول اللهﷺ فيهم أبو ذر، فحضرت الصلاة فقدموني، فصليت بهم، وغيره أولى؛ لأن الناس قلما يرغبون في الاقتداء بالعبد، والجهل عليهم أغلب؛ لاشتغالهم بخدمة المولى عن تعلم الأحكام، والتقوى فيهم نادرة”.1
وقال الخرشي: “وأن الحر يقدم ندباً على ذي الرق”2 وقال أبو إسحاق الشيرازي: “وإن اجتمع حر وعبد فالحر أولى؛ لأنه موضع كمال، والحر أكمل”3، وقال ابن قدامة: “ويقدم الحر على العبد؛ لأنه من أهل المناصب”4 ويتضحَ ممَّا سبق ذكرُهُ أنَّ الحُرَّ يُقدَّمُ على العبدِ في إمامَةِ الصَّلاةِ لعدة أمور:
1. لأن الناس قلما يرغبون في الصلاة خلف العبد.
2. لأنه يغلب عليهم الجهل لانشغالهم بالخدمة.
3. لأن الإمامة موضع كمال، والحر أكمل من العبد.
لكن إذا كان العبد أتقى وأعلم من الحر فهو المقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها صاحب المبدع عنه5، وقد قيَّد الأفضلية صاحب كتاب (المحيط) ابن مازه الحنفي وغيره، كما ذكر ذلك عنه ابن نجيم في البحر الرائق6، فقالوا بتقديم العبد إذا كان أفضل وأعلم من الحر.
تقديمُ الحاضرِ عَلَى البادِي
الحاضر هو من سكن المدن والقرى، والبادي هو البدوي وهو من سكن البادية عربياً كان أو أعجمياً، وقد نصَّ الحنفيةُ والحنابلةُ على تقديم الحاضر على البادي، وإليك بعض نصوصهم، قال السرخسي: “وأما جواز إمامة الأعرابي فإن الله – تعالى – أثنى على بعض الأعراب بقوله: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ (سورة التوبة:99)، وغيره أولى؛ لأن الجهل عليهم غالب، والتقوى فيهم نادرة، وقد ذمَّ اللهُ – تعالى – بعض الأعراب بقوله: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً (سورة التوبة:97)7، وقال ابن نجيم: “وأما الكراهة فمبنية على قلة رغبة الناس في الاقتداء بهؤلاء، فيؤدي إلى تقليل الجماعة المطلوب تكثيرها للأجر .. والغالب على الأعراب الجهل.. وعلى قياس هذا إذا كان الأعرابي أفضل الحاضرين كان أولى”8
والسبب في تقديم الحاضر على البادي في الإمامة كما ذكر بعض الفقهاء هو:
أن الجهل على سكان البادية أغلب، والتقوى فيهم نادرة، وقلة رغبة الناس في الاقتداء بالبدو؛ فيسبب تقليل الجماعة المطلوب تكثيرها، ولأن الحضري أجدر بمعرفة حدود الله، وأحرى بإصابة الحق، ولأن الأغلب على أهل البادية الجفاء.9
والخلاصة أن الأكمل في الإمامة – وليس على وجه الوجوب أو الاستحباب – أن يقدم الحر على العبد، والحضري على البدوي؛ لما ذُكِرَ من الأسباب .. ولكن لابد أن يُعلَم أنَّ العبد والبدوي إذا كانا أفضل الموجودين علماً وتقوى، وأكثر تلاوة؛ فإنهما يُقدَّمان والعلم عند الله – تعالى -، وهذا ما اختاره ابن نجيم في البدوي كما قدمنا ذكر كلامه.
وكذلك ما جاء في رواية الإمام أحمد وصاحب كتاب المحيط الحنفي المتقدم ذكره من أن العبد إذا كان أفضل الموجودين وأعلمهم فهو المقدَّم في الإمامة.. وهذا القول هو الموافق لحديث النبي ﷺ : يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعملهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً رواه مسلم، وفي رواية: سناً حيث لم يعتبر الرسول ﷺ لا حراً ولا عبداً، ولا حاضراً ولا بادياً، بل الأمر كل الأمر في كثرة التلاوة، والعمل بالقرآن، والعلم بأمور الدين، والهجرة، والإسلام .. والله أعلم.