إمامة الصبي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له شكراً جزيلاًَ على توفيقه وامتنانه، اختار من شاء من خلقه لحمل رسالته وتبليغها إلى الناس، وجعل العلماء من بعد الأنبياء ورثة لهم في علمهم ورسالتهم الخالدة، والصلاة والسلام على رسول الله محمد خاتم النبيين، ما ترك من خير إلا بينه وحث على فعله، وما ترك شراً إلا بينه وحذر منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.. أما بعد:
أخي القارئ-وفقك الله-: اعلم أن مسائل الفقه الإسلامي العظيم قد حصل فيها خلاف بين العلماء؛ لحكمة يعلمها الله، فما على المسلم إلا أن يتأدب بأدب الخلاف كما تأدب به السابقون.. وما نشأ التنازع والخصام في الفروع إلا من جهلة الناس أو من دعاة الفقه، وهم أجهل من العوام بقداسة العلم لتعصبهم، وكان الأولى بهم اتباع الدليل، مع ترك المخالف وشأنه بعد نقاشه بأدب ووقار، فإذا لم يحصل الاتفاق ترك كل وشأنه، مع التآلف والتسامح بين المسلمين.. هذه مقدمة وجيزة لرفع ما قد يعتري القارئ الكريم من إشكال في مسائل الخلاف أو ضيق صدر بسبها..
وإمامة الصبي للقوم إما أن تكون في صلاة نفل أو فرض.
المسألة الأولى: إمامته في الفرض: اختلف العلماء فيها على قولين:
الأول: أن إمامته صحيحة. وبه قال الإمام الشافعي,وهو رواية عن أحمد اختارها الآجري وصاحب الفائق، ولهم على ذلك أدلة وهي:
ما ثبت عن عمرو بن سلمة-رضي الله عنه-أن النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم-,قال لأبيه: (وليؤمكم أكثركم قرآناً) فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين).1
فالصحابة-رضي الله عنهم-قدموا عَمراً وهو صبيٌّ، وكان ذلك في حياةِ النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلم-فلو كانَ غيرَ جائزٍ لبينه؛إذ لا يصحُّ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، فكانَ ذلك إقراراً لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودليلهم الثاني : ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-,قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقُّهم بالإمامةِ أقرؤهم).2
فبيَّن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنَّ الأحقَّ بالإمامة هو الأقرأ، ويدخل في ذلك البالغ والصبي المميز؛ لأنه قد يكون أقرأ من البالغين.
القول الثاني: أن إمامته غير صحيحة. وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، وأدلتهم على ذلك:
حديث:(إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتمَّ به؛فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا:ربنا لك الحمد..)الحديث.3,فالنَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-نهى عن الاختلاف على الإمام، وصلاةُ الرجالِ فرضٌ,بينما هي في حقِّ الصَّبيِّ نفلٌ؛لأنه غيرُ مُكلَّفٍ، فحصلَ الاختلافُ بينَ الإمامِ والمأمومِ,وهُو منهيٌّ عنْهُ، فدلَّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إمامةِ الصَّبيِّ.
واستدلوا كذلك بحديث عليٍّ-رضي الله عنه-,قال:قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-:(رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ).4
قالوا: بيَّن النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-أنَّ القلمَ رُفِعَ عن الصَّبيِّ حتى يبلغَ، فلا تصح خلفَ من رفع القلم عنه كالمجنون.
والرَّاجِحُ قولُ الشافعيِّ-رحمه الله-لموافقتِهِ لحديث عمرو بن سلمة الصحيح الصريح في صحة إمامة الصبي، ولأنَّ ما استدلَّ به أصحاب القول الثاني لا يدل على مسألتنا، فأمَّا حديث إنما جعل الإمام.. فهو نهي عن الاختلاف في أفعال الصلاة الظاهرة؛ ولهذا أمر النبي-صلى الله عليه وسلم-بموافقة الإمام في الركوع والرفع وغير ذلك.وأما حديث علي -رضي الله عنه-في بيان رفع القلم عن الصبي فالمقصود رفع التكليف والإيجاب، وليس نفي صحة الصلاة.5
المسألة الثانية: إمامة الصبي في النفل:
جَرَى الخلافُ في هذه المسألةِ كسابقتِها، حيث اختلفَ العلماءُ فيها على قولين:
الأولُ: تصحُّ إمامتُهُ.وهو قولُ الإمامِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمد,واختارها أكثرُ أصحابِهِ.
وأدلتهم على ذلكَ:
أدلة الشافعية: الأدلة التي سبقت عنهم في مسألة إمامة الصبي في الفرض، فالنفل أولى.
وأما الحنابلة والمالكية الذين يمنعون من إمامة الصبي في الفرض، فعللوا لجواز إمامته في النفل بأن صلاة النفل يدخلها التخفيف.6
القول الثاني: لا تصح إمامته.. وهو قول الأحناف. ودليلهم على ذلك:
أنه لا فرق بين النفل والفرض في عدم الصحة، واستدلوا بنفس الأدلة في المسألة السابقة.
والراجح صحة إمامته في النفل؛ لأنها إذا صحت في الفرض ففي النفل من باب أحرى..
والله أعلم، وصلى الله على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
1– رواه البخاري في صحيحه (4302) في كتاب المغازي، باب مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة زمن الفتح.
2– صحيح مسلم (672) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة.
3– رواه البخاري في مواضع عديدة من صحيحه برقم (378) و (688) و (689) و (722) و (732) و (733) و (734). ومسلم في كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام رقم (414).
4– رواه أحمد (943)، والترمذي (1423)، وأبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، والدارقطني (2296). وصححه غير واحد من أهل العلم منهم الألباني في صحيح الجامع (3512).وفي غيره.
5– انظر المجموع للإمام النووي –رحمه الله- (4/131).
6– انظر الشرح الكبير (1/408).