وللصدقة شأن آخر
عبد الله قهبي
معاشر الفضلاء، إنّ مما تُستمطَر به الرحمات في الدنيا والآخرة الإحسان بكل صوره ومعانيه ، ومن وفق للإحسان فقد وفق لرحمت الله تعالى ، قال تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (56) سورة الأعراف ، وقال سبحانه { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [البقرة: 218 عباد الله ،تمر بنا شدائد في الدنيا وستمر بنا شدائد في الآخرة ، لا مخرج من ضيقها وهمها وكربها بعد رحمة الله تعالى إلا ببذل الإحسان في كل باب من وأبواب الخير المتعددة ،عندئذ ننال رحمة الله ، والإحسان يبذل في الرخاء ليذكرنا الله به في الشدائد ، قال صلى الله عليه وسلم ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).صححه الألباني رحمه الله ، وأقرب الناس للإحسان من الله أطولهم يدا في النفقات والصدقات ، روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه يوما : ( أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا) قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول ، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش ،وكانت امرأة قصيرة ولم تكن بأطولنا ، فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أراد طول اليد بالصدقة ،
عباد الله : بينما كان الصحابة جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، ينهلون من فيض خُلقه وعلمه, وقد تكحلت أعينهم برؤية وجهه المتلألئ نورا ، وقد تشنفنت أذناهم بسماع كلامه ؟! ورقت قلوبهم بحسن حديثه وبيانه ، بينما هم على هذه الحال وما أطيبها من حال! في مجلس الحبيب عليه الصلاة والسلام المجلس النبوي الذي قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم ، (والذي نفسي بيده ! لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وعلى فرشكم وفي طرقكم ،و لأظلتكم بأجنحتها)، صححه الألباني رحمه الله ، في هذا المجلس دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قوم حفاة عراة، بلغ الفقر منهم مبلغه حتى ساقهم إلى أكرم الخلق، وأرحم الناس بالناس، جاءوا إلى من ضاقت عليه نفسه بما رحبت حين رأى حالهم ومآلهم , جاءوا إلى الرؤوف الرحيم ، والبر الكريم ، فأحسنوا المجيء، وأفلحوا في الاختيار.
فلما رآهم صلوات ربي وسلامه عليه تَمَعَّر وجهه، وضاقت عليه نفسه، فدخل بيته وخرج مضطرب الحال منشغل التفكير، مهموماً مغموماً، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب الناس وحثهم على الصدقة حتى جاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، حتى اجتمع كومان من طعام وثياب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلل وجه المنير صلوات ربي وسلامه عليه ، وسر عنه وانشرح صدره وأطمأن قلبه حين رأى المؤمنين يتسابقون لامتثال أمره فيؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، لأن الصدقة شعار المتقين، ولواء الصالحين المصلحين,ورافعة بلاء المبتلين ،زكاة للنفوس، ونماء في المال، وطهرة للبدن، ومرضاة للرب، تطهّر القلوب من أدران التعلق بهذه الدنيا وأوضارها وشهواتها وملذاتها. قال تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة:103]. وقال سبحانه {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (16) سورة التغابن ) .
كل ذلك ليبقى أهل البذل والإنفاق بأفضل المنازل وأعلاها، ويبقى الممسكون القابضون البخلاء بأدنى المنازل وأسفلها ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، عباد الله : يقول ابن القيم رحمه الله : إن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء ورفعها ، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم و عامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرّون به لأنهم جرّبوه ويؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة فيقول: ( داووا مرضاكم بالصدقة ) صححه الألباني رحمه الله ، بل الصدقة سبب في حسن الختام ودفع ميتة السوء بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، قال عليه الصلاة والســـلام ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء) صححه الألباني رحمه الله، وعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث، والذي نفس محمد بيده إن كنتُ لحالفا عليهنّ: لا ينقص مال من صدقة فتصدّقوا، ولا يعفو رجلٌ عن مظلمة يريد بها وجه الله إلا رفعه الله بها عزّا يوم القيامة، ولا يفتح رجلٌ على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» صححه الألباني، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة نورٌ، والصدقة برهانٌ، ».
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث:
والبرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس…… فكذلك الصدقة برهانٌ على صحة الإيمان، وسخاء النفس والجود والكرم ، و طيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان و طعمه أهـ.
قال الشافعي رحمه الله : تستر بالسخاء فكل عيب ،،،، يغطيه كما قيل السخاء ،،،فالناس يثنون على المحسنين ولو كثرت خطاياهم ، ويذمون البخلاء ولو كثرت مزاياهم ، وحين يبعث الناس من قبورهم حفاة عراه متبعين صوت الداعي للمحشر العظيم ، تحت دنو الشمس ولهيبها ، هناك يستظل المتصدق تحت ظل صدقته ،، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلّ امرئ في ظِلّ صدقته حتى يفصل بين الناس»، وفي رواية : «حتى يُحكم بين الناس» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله : وذكر منهم ، ورجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور ، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته ) صححه الألباني رحمه الله ، .وكذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة قبل أن يأتي الموت، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل -لا تؤجل- حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان: كذا وكذا، ولفلان: كذا وقد كان لفلان) رواه البخاري .ويقول عليه الصلاة والسلام ، (يا كعب بن عجرة : الصلاة برهان ، والصوم جنة حصينة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، كما يطفئ الماء النار )،، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام ،( ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا) . وليس ثم أعظم من وعد الله للمنفقين في سبيله ، فقد وعد واوجب سبحانه على نفسه أن من تصدق بصدقة يسيرة أو عظيمة صغيرة أو كبيرة ، أنه يخلفها عليه في حياته قبل مماته فقال جل في علاه {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (39) سورة سبأ، فأطلق سبحانه الخلف في هذه الآية ولم يقيدها بزمن محدد ،فعود نفسك يا عبدالله أن تكون يدك ممدودة للصدقة كل يوم ولو بأقل القليل فإن الصدقة بركة عليك وعلى أهل بيتك من كل مرض وسوء ،،
ولعلنا نجمل ملخص أبواب الصدقة فيما يلي :
قال عليه الصلاة والسلام : ( الساعي على الأرملة والمسكين ، كالمجاهد في سبيل الله ، أو كالقائم الليل والصائم النهار) رواه البخاري ، وقال عليه الصلاة والسلام ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ) صححه الألباني رحمه الله ، فماذا أنت صانع بعد اليوم ، هل ستقبض يداك وتشابه من ذمهم الله بقوله {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } (67) سورة التوبة أم ستشابه من أثنى الله عليهم بقوله {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً } (22) سورة الرعد، لا أظنك بعد هذا إن كنت راجيا رحمة الله وعفوه ومغفرته أن تتقهقر بعد اليوم فاجعل لك من كل يوم نصيبا من الصدقة ترجو بها النجاة من النار وترجو بها زوال ما أصابك من بأس وترجو بها حفظ ما أنعم الله عليك من عافية ومال وولد فبادر قبل أن يبادر إليك بموت أو مرض أو فقر ، فالسعيد من اغتنم الخير وقدم لنفسك قبل أن يقدم فيصلى عليه ،إن أمامنا عقبة كؤود لا يجوزها المثقلون ، قال تعالى { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ }(11- 16) سورة البلد ،وإن متاع الدنيا لزائل مهما طال قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ *ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }(205 -207) الشعراء ،،، فنفق من رقدتنا قبل أن نندم ولات ساعة مندم ، قال تعالى { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} (99) لماذا ،{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } ولكن ،،، { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }(100) المؤمنون ،،،
وتتوالى الأماني عند الاحتضار وتتوحد الأماني في شيء واحد فقط ألا وهو العمل الصالح قال تعالى { وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} (10) فالبدار البدار ياعبد الله قبل أن تعض على أصابع الندم وتقول {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (27) الفرقان ،،،