فتح مكة دروس وعبر

العبر والدروس من فتح مكة

 

العبر والدروس من فتح مكة

 

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فقد كان فتح مكة بداية فتح عظيم للمسلمين، وقد كان الناس تبعاً لقريش في جاهليتهم، كما أنهم تبع لقريشٍ في إسلامهم، وكانت مكة عاصمة الشِّرك والوثنية، وكانت القبائل تنتظر ما يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومه وعشيرته، فإن نصره الله عليهم، دخلوا في دينه، وإن انتصرت قريش، يكونوا بذلك قد كفوهم أمره، فقد روى البخاري عن عمرو بن سلمة، قال: كنَّا بماء مـمر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس، ما للناس؟ ما هذا الرجل؟1، فيقولون: يزعم أنَّ الله أرسله، أوحى إليه أو أوحى الله بكذا ، فكنت أحفظ ذلك فكأنَّما يقر في صدري وكانت العرب تَلَوَّم2 بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإنَّه إن ظهر عليهم فهو نبِي صادق، فلمَّا كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قومٍ بإسلامهم…" الحديث3.

وإذا تأملنا أحداث هذا الفتح الأكبر نستطيع أن ندرك تماماً قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي وقعت من قبله. إن شيئاً من هذا الجهاد والتعب والمحن لم يذهب بدداً، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدراً، ولم يتحمَّل المسلمون كلَّ ما لاقوه مما قد علمنا في هجرتهم وغزواتهم وأسفارهم، لأنَّ رياح المصادفة فاجأتهم بها، ولكن كل ذلك كان وفق قانونٍ سماوي، وبحسب سنة الله في خلقه فكل التضحيات المتقدمة كانت تؤدي أقساطاً من ثمن الفتح والنَّصر وتلك هي سنة الله في عباده… لا نصر بدون إسلامٍ صحيحٍ ولا إسلام بدون عبودية لله، ولا عبودية بدون بذل وتضحية وضراعة على بابه وجهاد في سبيله، ولذلك كان الفتح مليئاً بالدروس والعبر والفوائد وهذه لمحات من الفتح وعبره وفوائده:

1- بيان عاقبة نكث العهود وأنه وخيم للغاية، إذ نكثت قريش عهدها فحلت بها الهزيمة، وخسرت كيانها الذي كانت تدافع عنه وتحميه.

2- تجلِّي النبوة المحمدية والوحي الرباني في الإخبار بالمرأة حاملة خطاب حاطب بن أبي بلتعة؛ إذ أخبر عنها وعن المكان الذي انتهت إليه في سيرها وهو (رَوْضة خاخ).

3- فضيلة إقالة عثرة الكرام، وفضل أهل بدر، وقد تجلَّى ذلك واضحاً في العفو عن حاطب بعد عتابه، واعتذاره عن ذلك، بالتوبة منه.

4- مشروعية السفر في رمضان، وجواز الفطر والصيام فيه. فقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فتح مكة في رمضان وكان في السفر الصائم والمفطر ولم يعتب على أحد.

5- مشروعية التعمية على العدو حتى يُباغت، قبل أن يكون قد جمع قواه، فتسرع إليه الهزيمة وتقل الضحايا والأموات من الجانبين حقناً للدِّماء البشرية.

6- بيان الكمال المحمدي في قيادة الجيوش, وتحقيق الانتصارات الباهرة.

7- مشروعية إرهاب العدو بإظهار القوة له، وفي القرآن الكريم قال -تعالى-: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} الأنفال60.

8-  إنزال الناس منازلهم، وقد تجلَّى هذا في إعطاء الرسول-صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان كلماتٍ يقولهن، فيكون ذلك فخراً له واعتزازاً، وهي: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن" ينادي بها بأعلى صوته.

9- بيان تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لربه شكراً له على آلائه وإنعامه عليه إذ دخل مكة وهو مطأطئ الرأس، حتى إنَّ لحيته لتمس رحلَ ناقته تواضعاً لله وخشوعاً. فلم يدخل -وهو الظافر المنتصر- دخولَ الظلمة الجبارين سفاكي الدماء البطَّاشين بالأبرياء والضعفاء.

10- بيان العفو المحمدي الكبير إذْ عفا عن قُريشٍ العدو الألد، ولم يقتل منهم سوى أربعة رجال وامرأتين.

11- بيان الكمال المحمدي في عدله ووفائه، تجلَّى ذلك في رد مفتاح الكعبة لعثمان بن أبي طلحة، ولم يُعطه مَن طلبه منه وهو "علي بن أبي طالب" -رضي الله عنه- وهو صهره الكريم وابن عمه.

12- وجوب كسر الأصنام، والصور، والتماثيل، وإبعادها من المساجد بيوت الله -تعالى-.

13- تقرير مبدأ الجوار في الإسلام لقوله- صلى الله عليه وسلم- : (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)4.

14- وجوب البيعة على الإسلام، وهي الطاعة لله ورسوله وأولي الأمر في المعروف وما يستطاع.5

والحمد لله رب العالمين


 


1 أي يسألون عن النبي –صلى الله عليه وسلم-, وعن حال العرب معه.فتح الباري (7/ 617).

2 – بفتح أوله واللام, وتشديد الواو, أي تنتظر , وإحدى التاءين محذوفة.فتح الباري (7/ 617).

3 – رواه البخاري  كتاب المغازي, حديث رقم(3963).

4 -أخرجه البخاري كتاب الجزية برقم(2935).

5– انظر: (هذا الحبيب يا محب) للشيخ أبي بكر الجزائري.