القضاء في المسجد

 

القضاء في المسجد

 

الحكم لله الحكم العدل البر الرحيم، القوي العزيز الرحيم الحليم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النبي الكريم والإمام العظيم، وعلى آله وصحبه ذوي الخلق العظيم، والوصف الكريم. أما بعد:

فإن القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه من الأحكام العظيمة التي رعاها الدين وحدد معالمها ووضح طرقها وبين مسالكها. وأعظم هدف للقضاء بين الناس هو تحقيق العدل بينهم وإعطاء كل ذي حق حقه، وردع الظالم وإنصاف المظلوم، ليعم بذلك الخير وتسلم البشرية من ويلات الظلم والظالمين.

 

وهنا مسألة من مسائل القضاء، وهي: هل يجوز القضاء وفصل الخصومات بين الناس في المسجد؟

بوب البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح الجامع، فقال: "باب القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء" وذكر حديث سهل بن سعد: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟! فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد1.

 

وبوب في موضع آخر فقال: "باب التلاعن في المسجد" والتلاعن هو أن تزني زوجة الرجل فينفيها بقوله: "لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين" وتسمى مسألة الملاعنة.

 

ثم ذكر البخاري رحمه الله حديث سهل بن سعد السابق بطوله: فعن سعد -رضي الله عنه- أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد قضى الله فيك وفي امرأتك) قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم.. إلخ.2

 

والشاهد فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بين الرجل وزوجته في المسجد.

قال ابن قدامة في الشرح الكبير:

"ولا يكره القضاء في الجامع والمساجد، فعل ذلك شريح، والحسن، والشعبي، ومحار ابن دثار، ويحيى بن يعمر، وابن أبي ليلى، وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر وعلي وعثمان أنهم كانوا يقضون في المسجد، قال مالك: القضاء في المسجد من أمر الناس القديم، وبه قال مالك وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي: يكره ذلك إلا أن يتفق خصمان عنده في المسجد؛ لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن: لا تقض في المسجد لأنه يأتيك الحائض والجنب والذمي، وتكثر غاشيته، ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد، وربما أدي إلى السب وما لم تبن له المساجد.

 

قال ابن قدامة: ولنا إجماع الصحابة بما قد روينا عنهم، وقال الشعبي: رأيت عمر مستندا إلى القبلة يقضي بين الناس؛ ولأن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس، ولا نعلم صحة ما رووه، وقد روي عنه خلافه. وأما الحائض فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله، والجنب يغتسل ويدخل، والذمي يجوز دخوله بإذن مسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم، وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضاً بالحقوق في المسجد، وربما رفعوا أصواتهم، فقد روي عن كعب ابن مالك قال: تقاضيت ابن أبي حدرد ديناً في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلي "ضع من دينك الشطر" فقلت: نعم يا رسول الله، فقال: "قم فاقضه"3.4

 

فتبين بما تقدم من الأحاديث والآثار جواز القضاء في المساجد، وأن ذلك من فعل السلف الصالح، رضوان الله عليهم.

وما دام الأمر جائزاً فيعني أن القضاء خارجه يجوز بل استحبه الشافعي وغيره، وقد توفرت في زماننا بنايات خاصة بالمحاكم وتغيرت الإجراءات واكتفى الناس بها عن المساجد، وهذا شيء جيد صيانة لبيوت الله عن أمور كثيرة، ولكن إذا وافق أن كان القاضي في المسجد ففصل في المسألة في وقتها في المسجد فإن ذلك من الجائز كما تقدم.

 

والخلاصة: "أنه قد علم أن القضاء في ذلك الزمان هو مجرد سماع قول الخصمين، ثم الفصل بينهما بكلمة أو كلمتين، وتنتهي القضية بدون مجادلات، ورفع أصوات، وتسجيل توقيعات، كما في هذه الأزمنة، وقد يكون سبب حكمهم في المسجد عدم توفر بناء خاص بالمحاكم، حيث إن القاضي يجلس في بيته، وقد يضيق بالخصوم المنزل، فيحتاج إلى الجلوس في المسجد، وقد يكون العذر هو تمكن المرأة والضعيف من الوصول إليه للإدلاء بالحجة, وسماع الدعوى، وتحذير الكاذب من امتهان المسجد بالحلف الفاجر.

 

وأما في هذه الأزمنة.. فقد خصص محاكم مهيأة للجلوس فيها، وإحضار الخصومة، وتيسر للمظلوم والضعيف الوصول إلى القاضي، وعلى هذا تنزه المساجد عن هذه المرافعات، والجدال والنزاع, حتى يعرف للمساجد مكانتها وشرفها.5

والله الهادي والموفق إلى كل خير. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 صحيح البخاري (2/193).

2 رواه البخاري.

3 رواه البخاري ومسلم.

4 الشرح الكبير، لابن قدامة (ج 11 / ص 397).

5 فصول ومسائل تتعلق بالمساجد – (ج 1 / ص 67)