عتيرة رجب

عتيرة رجب

 

عتيرة رجب

 

الحمد الذي الخلق ليعبدوه، وبالألوهية يفردوه، والصلاة والسلام على خير رسله، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم لقاءه.

أما بعد:

فإنّ الله-سبحانه- لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى وهملاً، بل خلقهم لغاية عظيمة، وهي عبادته وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات(56). وبيَّن لهم في كتابه وعلى لسان رسوله؛ فضل العبادة وأهميتها، وكيفيتها، وشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومستحباتها، وأنواعها، بل قُلْ بيَّن لهم ما يجب، وما يستحب، وما يباح لهم فعله، وما يحرم، وما يكره لهم فعله.

 

ومن هذه العبادات التي شرعها لهم؛ عبادة الذبح له؛ قال الله –تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}سورة الأنعام (162)(163)، و(نُسُكِي) أي ذبحي ونحري. وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} سورة الكوثر(2). قال ابن تيمية -رحمه الله-: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك -الذبح- الدالتان على القرب والتواضع والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه أياها، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: {قل إن صلاتي ونسكي..} الآية. والنسك: الذبيحة لله -تعالى- وابتغاء وجهه، فإنها أجل ما يتقرب به إلى الله1. والذبح لله قد يكون واجباً؛ كمن عليه كفارة دم في الحرم أو عليه نذر، وغير ذلك. وقد يكون مستحباً؛ كالعقيقة على المولود، والوليمة للزواج، والأضحية على قول بعض العلماء. وقد يكون الذبح مباحاً؛ كمن ذبح لإطعام نفسه وأهله، أو غيره، لغير سبب، من تعظيم لأحد، أو وجود سبب شرعي. وقد يكون الذبح محرماً؛ كمن ذبح لغير الله، فهذا شرك أكبر؛ فعن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- قال: حدثني رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات، وذكر منها: (… ولعن الله من ذبح لغير الله…)2. وقد يكون الذبح محرماً؛ كمن يذبح لله، ولكن يخصص لذبحه زمناً لم يحدده الله ولا رسوله؛ كمن يعتقد أفضلية الذبح في شهر من الشهور، أو في يوم من الأيام، ومن هذه الذبيحة؛ ما يسمى بالعتيرة، وهي الذبح في العشر الأوائل من رجب؛ قال أبو داود-رحمه الله-: والعتيرة في العشر الأول من رجب3. قال أبو عبيدة -رحمه الله-: وأما العتيرة فإنها الرجبية، وهي ذبيحة كانت تذبح في رجب، يتقرب بها أهل الجاهلية..وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا طلب أمراً نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، وهي العتائر4.

 

وهذه الذبيحة قد اختلف العلماء في حكمها على أقوال:

القول الأول: أن العتيرة مستحبة؛ واستدلوا على ذلك بحديث أبي مخنف بن سليم قال: كنا وقوفاً مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات فسمعته يقول: (يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية)5. وعن أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي قال: قال يا رسول الله إنا كنا نذبح ذبائح في الجاهلية في رجب فنأكل ونطعم من جاءنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا بأس به)6. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العقيقة… وسئل عن العتيرة فقال : (العتيرة حق)7. وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا فرع ولا عتيرة)8. أي لا عتيرة واجبة قوله-صلى الله عليه وسلم-: (إذبحوا لله في أي وقت كان)9. أي اذبحوا إن شئتم، واجعلوا الذبح لله في أي شهر كان، لا أنها في رجب دون غيره من الشهور10. وهذا قول الشافعي-رحمه الله-، قال النووي: وقد نص الشافعي -رحمه الله- في سنن حرملة أنها إن تيسرت كل شهر كان حسناً، فالصبح الذي نص عليه الشافعي -رحمه الله – واقتضته الأحاديث أنهما – الفرع والعتيرة – لا يكرهان بل يستحبان هذا مذهبن11.

 

القول الثاني : أنها لا تستحب، وهل تكره؟: فيه وجهان:

الوجه الأول: تكره العتيرة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا فرع ولا عتيرة)12.

الوجه الثاني: لا تكره للأحاديث السابقة بالترخص فيها. وأجابوا عن قوله -صلى الله عليه وسلم- : (لا فرع ولا عتيرة). بثلاثة أوجه:

أحدها: أن المراد نفي الوجوب- كجواب الشافعي-رحمه الله– السابق .

الثاني: أن المراد نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم.

الثالث: أن المراد أنها ليست كالأضحية في الاستحباب أو ثواب إراقة الدم.

وقد نسب النووي-رحمه الله- هذا القول: إلى ابن كج والدارمي من الشافعية.

 

القول الثالث: أنها لا تسن، والدليل على ذلك قوله-صلى الله عليه وسلم- : (لا فرع ولا عتيرة)؛ الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- وهذا الحديث متأخر على الأمر بها فيكون ناسخاً. ودليل تأخره أمران:

الأمر الأول: أنه من رواية أبي هريرة وهو متأخر الإسلام، فإن إسلامه في سنة فتح خيبر، وهي السنة السابعة من الهجرة.

الأمر الثاني: أن الفرع والعتيرة كان فعلهما أمراً متقدماً على الإسلام، فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه، واستمرار النسخ من غير رفع له. ولو قدرنا تقدم النهي عن الأمر بهما، لكانت نسخت ثم نسخ ناسخها وهذا خلاف الظاهر. إذا ثبت هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة، لا تحريم فعلها ولا كراهته13، ذكر هذا القول ابن قدامة-رحمه الله- في الشرح الكبير وقال: هذا قول علماء الأمصار، سوى ابن سيرين، فإنه كان يذبح العتيرة في رجب ويروي فيها شيئ14. وقد قال بالنسخ أبو عبيد القاسم بن سلام، وذكر النووي أن القاضي عياض يقول: إن الأمر بالفرع والعتيرة منسوخ عن جماهير العلماء15.

 

القول الرابع: النهي عن العتيرة، وأنها باطلة؛ قال ابن قيم الجوزية-رحمه الله-: وقال ابن المنذر-بعد أن ذكر الأحاديث في عتيرة رجب-: وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية، وفعله بعض أهل الإسلام، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهما، ثم نهى عنهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لا فرع ولا عتيرة). فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنها، ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم يقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان نهاهم عنهما ثم أذن فيهما، والدليل على أن الفعل كان قبل النهي قوله في حديث نبيشة: إنا كن نعتر عتيرة في الجاهلية، إنا كنا نفرع في الجاهلية16. وفي إجماع عوام علماء الأمصار على عدم استعمالهم ذلك، وقوف عن الأمر بهما مع ثبوت النهي عن ذلك بيان لما قلن17. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحم الله الجميع-: قوله: (ولا تسن الفرعة والعتيرة) وفيما أفهم الآن أنه أقرب إلى التحريم. قوله: (والمراد بـ(لا فرع ولا عتيرة) نفي كونهما سنة) أي خلافاً لما يراه بعض أهل الجاهلية من أن ذلك سنة، هذا معنى كلام بعضهم. لكن النفي يفيد البطلان كـ(لا عدوى ولا طيرة)18 أفلا يكون (لا فرع ولا عتيرة) إبطال لذلك؟!. فالأصل سقوط ذلك، ولا حاجة إلى تأويل، بل هو ساقط بالإسقاط النبوي، سقط سنة وفعلاً. هذا مع دلالة: (من تشبه بقوم فهو منهم)19. مع دلالة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- منع من مشابهة الجاهلية.

 

ثم إن هذا من باب العبادات، والعبادات توقيفية، فلو لم ينفها -صلى الله عليه وسلم- كانت منتفية، فإن أمور الجاهلية كلها منتفية، لا يحتاج إلى أن ينصص على كل واحد منها. قوله: (ولا يكرهان) هذا تصريح بعدم الكراهية، وبعض الأصحاب قال بالكراهة20، والذي نفهم أنه حرام، وهذا بالنسبة إلى تخصيصهم ذبح أول ولد تلده الناقة-الفرع-، والذبح في العشر الأول من رجب-العتيرة -، أما إن كان مثل ما يفعله الجاهلية لآلهتهم فهو شرك21. والذي يترجح -والله أعلم- هو القول بالبطلان؛ لاتفاق جمهور العلماء على أن ما ورد في العتيرة منسوخ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا فرع ولا عتيرة). وأنَّ اللام في هذا الحديث تفيد النفي قياساً على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا عدوى ولا طيرة). ولما في العتيرة من التشبه بأهل الجاهلية، وهذا منهي عنه؛ ولأن الذبح عبادة، والعبادات توفيقية. ولكن ليس هذا معناه أنه لا يجوز الذبح عموماً في شهر رجب، ولكن المراد بالنهي هو ما ينويه الذابح أن هذه الذبيحة هي عتيرة رجب، أو أنه ذبحها تعظيماً لشهر رجب، ونحو ذلك- والله أعلم-22.


 


1 – مجموع الفتاوى(16/531).

2 – رواه مسلم.

3 – انظر:”سنن أبي داود (3/256) كتاب الأضاحي، حديث رقم (2833).

4 – راجع: “غريب الحديث” (1/ 195و196).

5 – رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وقال: “حديث حسن غريب”. وأبو داود، وقال الخطابي: “هذا الحديث ضعيف المخرج، وأبو رملة مجهول”، يراجع: معالم السنن (4/94)، كتاب الضحايا، حديث رقم (2670)، وقال المنذري: “وقد قيل أن هذا الحديث منسوخ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا فرع ولا عتيرة)، يراجع: مختصر سنن أبي داود (4/93)، كتاب الضحايا، حديث رقم (2670)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2421).

6 – رواه النسائي، والدارمي، وابن حبان في صحيحه، وقال الألباني في صحيح النسائي: صحيح لغيره.

7 – رواه أحمد، والنسائي، وذكره السيوطي في الجامع الصغير، وأشار إلى أنه حسن، وحسنه الألباني انظر صحيح الجامع رقم (4122).

8 –  رواه البخاري ومسلم.

9 – رواه البخاري ومسلم.

10 – راجع: “المجموع” للنووي (8/445).

11 – راجع: “المجموع” للنووي  (8/445، 446).

12 – سبق تخريجه.

13 – انظر: “الشرح الكبير” (2/304، 305).

14 – انظر:”الشرح الكبير” (2/304).

15 – راجع: “المجموع” (8/446). وشرح صحيح مسلم للنووي: (13/137). و”الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار” صـ(158-160).

16 – رواه أحمد، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وفي المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

17 – راجع : “تهذيب سنن أبي داود” لابن القيم (4/92و93). و”الاعتبار” صـ( 159و160).

18 – رواه البخاري.

19 – رواه أحمد وأبو داود، قال المنذري في تهذيب سنن أبي داود (6/25): في إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/236): وهذا إسناد جيد. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/ 590) رقم(8593 ). وأشار إلى أنه حسن. من رواية أبي داود، والطبراني في الأوسط. وقال الحافظ العراقي: سنده صحيح، وصححه ابن حبان، وله شاهد عند البزار. وعند أبي نعيم في تاريخ أصبهان. يُراجع : كشف الخفاء (2/314)، حديث رقم (2436). وقال الألباني -رحمه الله- : صحيح؛ انظر إرواء الغليل (8/49)، حديث رقم ( 2384).

20 – راجع: “الإنصاف” للمرداودي (4/114).

21 – انظر:”فتاوى ورسائل” الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (6/165و166).

22 – راجع البدع الحولية، عبد الله بن عبد العزيز التويجري، صـ(221- 225).دار الفضيلة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى(1421هـ).