الجرأة على الفتيا

الجرأة على الفتيا

 

الجرأة على الفتيا

 

مقدمة:

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعـــــد…

أيها الأخوة الكرام إن من الأمراض الفتاكة التي بدأ بدن الأمة الإسلامية يتآكل منها مرض الجرأة على الفُتيا في دين الله عز وجل لكل من هب ودب، فتساهل الناس في أمر دينهم، وانتهكوا حرمات الشريعة، وناولوا من قدسية دينهم أعظم النيل فلم يعد للقرآن والسنة مهابة في قلوب أولئك القوم فكان ما ترى من سهولة التلفظ بكلمة حرام وحلال، ويجوز ولا يجوز، وكفى بهذا المرض تبديلاً لأحكام الله وتغييراً لشرائعه، ونزعاً لمهابة الوعظ القرآني، والزجر النبوي من صدور قوم ابتلوا بمثل هذا المرض…

ونسأل الله العافية لنا وللمسلمين جميعاً من القول على الله بغير علم. ومن هذا المنطلق قدمنا هذا البحث حتى نضع الأمور في نصابها، وتستقر الهيبة من القرآن والسنة في قلوبنا، وتعود إلينا مروءتنا بعد أن ضاعت بالجرأة على الفُتيا في دين الله. نسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا، وأن يغفر به زلاتنا، والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

أولاً: الزاجر القرآني في الجرأة على الفتيا:

يقول تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (النحل:116). يقول القرطبي: أي لما تصف ألسنتكم من الكذب وقرئ الكُذُبُ بضم الكاف والذال والباء نعتا للألسنة (( أي وصفاً ))، وقرأ الحسن( يقصد البصري ) الكذب بفتح الكاف وخفض الذال والباء نعتا لما، والتقدير ( ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب )، وقيل على البدل من ما أي: ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. ج: 10 ص: 196 .

والآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام، وإن كان ميتة. فقوله هذا حلال إشارة إلى ميتة بطون الأنعام، وكل ما أحلوه. وقوله: ((وهذا حرام)) إشارة إلى البحائر والسوائب، وكل ما حرموه، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب. تفسير القرطبي ج: 10 ص: 196.

قال ابن القاسم: هو نعت الألسنة، وهو جمع كذوب.قال المفسرون: والمعنى أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنى إلا الكذب، والإشارة بقوله هذا حلال وهذا حرام إلى ما كانوا يحلون ويحرمون لتفتروا على الله الكذب، وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى ويقولون هو أمرنا بهذا. زاد المسير ج: 4 ص: 502.

 

وقال صاحب فتح القدير: قرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتا لما، وقيل على البدل من ما، أي ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في لتفتروا على الله الكذب هي لام العاقبة لا لام العرض، أي فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه. ثم يستطرد قائلاً: وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل: (( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام…….إلى آخر الآية)) فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.

 

 قلت: صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم، فإنهم أفتوا بغير علم من الله، ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا هم ومن يستفتيهم،كما قال القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الجائر .فتح القدير ج: 3ص:201 .  يقول تعالى:وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء:36). قال ابن منظور: قال الفراء:أكثر القراء يجعلونها من قفوت كما تقول لا تدع من دعوت قال: وقرأ بعضهم ولا تقف مثل:ولا تقل. وقال الأخفش: في قوله تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم)) أي لا تتبع ما لا تعلم، وقيل: ولا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا))… لسان العرب ج: 15 ص: 194.

 

يقول الزرقاني: الناظر في تاريخ الصحابة يروعه ما يعرفه عنهم في تثبتهم أكثر مما يروعه عنهم في حفظهم لأن التثبت فضيلة ترجع إلى الأمانة الكاملة والعقل الناضج من ناحية، ثم هو في الصحابة بلغ القمة من ناحية أخرى، إذ كان تثبتا بالغا وحذرا دقيقا وحيطة نادرة وتحريا عميقا لكتاب الله تعالى وهدى رسوله في كل ما يتصل بهما عن قرب أو بعد. مناهل العرفان ج: 1 ص: 219 . وكذلك نهى الله عن اتباع ما لا دليل عليه إلا أن تسمع الأذن أو ترى العين أو يعتقد القلب عن برهان، فقال عز من قائل: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا وقد عاب القرآن على من يأخذون بالظن فيما لا يكفي فيه الظن، فقال الله جل شأنه إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا … مناهل العرفان ج: 1 ص: 220

وقال السيوطي: أخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " عسى رجل أن يقول إن الله أمر بكذا، ونهى عن كذا، فيقول الله عز وجل له: كذبت. ويقول إن الله حرم كذا، وأحل كذا، فيقول الله عز وجل له:كذبت"…. الدر المنثور ج: 5 ص: 175. وعن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم ( النخعي ) قط يقول: حلال ولا حرام ولكن يقول كانوا يكرهون وكانوا يستحبون… تفسير القرطبي ج: 10 ص: 196.

 

وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا.. ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه، وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره كذا وكذلك، وكان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى… تفسير القرطبي ج: 10 ص: 196.

 

ثانياً: الزواجر النبوية في الجرأة على الفُتيا:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)). البخاري ومسلم. وكل أهل السنن تقريباً. ومعلوم إن هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، قال النووي: ولا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة إلا هذا، ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابياً إلا هذا, وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة ثم لم يزل في ازدياد وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما من حديث علي والزبير وأنس وأبي هريرة وغيرهم. والله أعلم. شرح مسلم.

 وقال ابن حجر: "قوله: (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) أي فليتخذ لنفسه منزلاً, يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكناً, وهو أمر بمعنى التهديد, أو بمعنى التهكم, أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك". فتح الباري: كتاب العلم. وقال النووي: "وأما الكذب فهو عند المتكلمين من أصحابنا: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو, عمداً كان أو سهواً, هذا مذهب أهل السنة". شرح مسلم. وفي رواية الدارمي: عَنْ الزُّبَيْر – رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. وليس فيها متعمداً. يقول ابن حجر تعليقاً على ذلك: "وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمداً أم خطأً, والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر, لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مَظِنَّة الخطأ, والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله, فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشارع, فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار, فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت, أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضي الله عنهم.

 

تتمة:

 في هذه الرواية (( أعني رواية الدارمي السالفة ))، وجعلها نعم ما تمسك به الزبير – رضي الله عنه- دليلاً على قلة التحديث، وما هو إلا الورع والإحجام عن محارم الله عز وجل، بل إنه بيان واضح لكل من سولت له نفسه إقداماً بدون مهابة وجرأة بدون رجعة للفتيا في أحكام الله، ثم يتعلل إذا ما ظهر خطأ في الحكم أنه لم يتعمد ذلك ولم يقصده، بل تجده يقلب مسألة ما ظهراً لبطن وهو لا يعلم أين مظانها ومن هم القائلون بالتحريم، ومن قال بالكراهة، ولكن السر في ذلك أن نفسه الأمارة بالسوء لم تهدأ إذا طُرحت مسألة في مكان يتداول فيه العلم حدثته نفسُهُ أنه لابد أن يكون له جولة وبيان وصيت بين صفوة أهل العلم الشرعي، فهل أمثال هؤلاء يعذرون بمقاصدهم ؟ وأين هم من الزبير – رضي الله عنه- وزهده وورعه وإحجامه، ومعرفته لقدر نفسه. يقول ابن حجر في فتح الباري: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: " عناني ذلك " يعني قلة رواية الزبير: " فسألته " أي عن ذلك " فقال: يا بني, كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمت, وعمته أمي, وزوجته خديجة عمتي, وأمه آمنة بنت وهب وجدتي هالة بنت وهيب ابني عبد مناف بن زهرة, وعندي أمك, وأختها عائشة عنده, ولكني سمعته يقول " مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ". " قلوب خالطت محبة الله بشاشتها، وقلوب دنست وساوس الشيطان صفاء ها ونقاءها "

 

ويقول النووي في شرح مسلم: "واعلم أن هذا الحديث يشتمل على فوائد وجمل من القواعد:

إحداها: تقرير هذه القاعدة لأهل السنة أن الكذب يتناول إخبار العامد والساهي عن الشيء بخلاف ما هو.

الثانية: تعظيم تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وأنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله. هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف.

الثالثة: أنه لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، فكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع.

الرابعة: يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا أو غلب على ظنه وضعه فمن روى حديثا علم أو ظن وضعه ولم يبين حال روايته ووضعه فهو داخل في هذا الوعيد, مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويدل عليه أيضا الحديث ( من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ).

ولهذا قال العلماء: ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكره أن ينظر فإن كان صحيحاُ أو حسناً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعله أو نحو ذلك من صيغ الجزم وإن كان ضعيفاً فلا يقل: قال أو فعل أو أمر أو نهى وشبه ذلك من صيغ الجزم بل يقول: رُوي عنه كذا أو جاء عنه كذا أو ( يُروى أو يُذكر أو يُحكى أو يُقال أو بلغنا وما أشبهه. والله سبحانه أعلم.  

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَفْتَى ح، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ " أخرجه أبو  ( داود، وقال الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 6068. في صحيح الجامع.  عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص  رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " البخاري ومسلم. يقول ابن حجر في الفتح: وقد اشتهر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة فوقع لنا من رواية أكثر من سبعين نفسا عنه من أهل الحرمين والعراقين والشام وخراسان ومصر وغيرها, وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامه قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع " فقال أعرابي: كيف يرفع ؟ فقال: "ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته. ثلاث مرات". الفتح ج1ص235ط الريان.

 

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم، حضره في حجة الوداع أكثر من مائة ألف صحابي في أعظم محفل تم في الإسلام، وهو ينصح ويودع قائلاً: "لعلكم لا تروني بعد عامي هذا "نصيحة لا نصيحة بعدها، فكان حكمة الله تعالى أن تحريم الفُتيا في دين الله بغير علم أمر يتناوله جمهرة غفيرة من أفاضل الصحابة فينشرونه في بقاع العالم الإسلامي حتى أصبح هذا الحكم معلوماً من الدين بالضرورة ليستوي في معرفته الخاص والعام ن وما ذاك غلا لخطورة هذا المنزلق حيث تضيع الهيبة الشرعية من صدور القوم، وتبدل أحكام  في الله في أرضه.

 

صور ونماذج السلف في الإحجام عن الفُتيا:

قوله تعالى عن الملائكة: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة:32) قال البيضاوي في تفسيره: " اعتراف بالعجز والقصور وإشعار بأن سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه…" تفسير البيضاوي ج: 1 ص: 288.

وقال القرطبي في سياق تفسير الآية السالفة: "الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم، ولا أدري اقتداء بالملائكة، والأنبياء، والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيَضِلون ويُضلون". ج1: ص: 285. 

 

أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ… فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ. ..فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟. فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ. فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا   وفي الصحيحين ورد حديث جبريل الطويل وفيه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ. ..ففَالَ: مَتَى السَّاعَةُ ؟. قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ…" قال النووي تعليقاً في الشرح على هذا الحديث: "ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، وأن ذلك  لا ينقصه بل يُستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه. 

وفي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.

 

فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ما لهم إلى الله، ولم يبين فيهم شيئاً، لأنه لم يُعلمه الله فيهم شيئاً، وما ينطق عن الهوى. وقال الصديق للجدة أرجعي حتى أسأل الناس.. عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ إِنَّ ابْنَ ابْنِي أَوْ ابْنَ بِنْتِي مَاتَ، وَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّ لِي فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقًّا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَجِدُ لَكِ فِي الْكِتَابِ مِنْ حَقٍّ، وَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى لَكِ بِشَيْءٍ، وَسَأَسْأَلُ النَّاسَ. قَالَ: فَسَأَلَ النَّاسَ فَشَهِدَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدُسَ، قَالَ: وَمَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعَكَ ؟. قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: فَأَعْطَاهَا السُّدُسَ... أخرجه الترمذي. انظر لم يمنعه حياؤه رضي الله عنه وهو الخليفة من أن يسأل الناس، وهذا عمر بن الخطاب  تعضل عليه المسألة فيجمع لها أهل بدر ليستشيرهم ويسألهم، فما يزيده ذلك إلا مهابة وإجلالاً في قلوبهم.

 

وكان علي رضي الله عنه يقول: وا أبردها على الكبد ثلاث مرات. قالوا: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟قال: أن يُسئل الرجل عما لا يعلم، فيقول: الله أعلم. ولنا مع هذا الأثر وقفة عما قريب  وأخرج مسلم في صحيحه قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ ( واسمه يحيى بن المتوكل رضي الله عنه – تابعي -) قَالَ:كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ فَلَا يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ، وَلَا فَرَجٌ، أَوْ عِلْمٌ وَلَا مَخْرَجٌ، فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: وَعَمَّ ذَاكَ ؟. قَالَ: لِأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، قَالَ: فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ.

 

ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه و التابعين بعدهم:

فروي البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي البقاع شر ؟. قال: لا أدري. حتى أسأل جبريل،فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء، فقال:خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة، فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به… تفسير القرطبي ج: 1 ص: 285. وعن عبد الرحمن بن أبى ليلي وهو من التابعين الثقات المعروفين – قال "لقد أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يسأل عن فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا ".

 

مائة وعشرون من خيرة أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم ومن كبارهم وممن طالت أعمارهم فحصلوا علماً كثيراً غزيراً، ومع ذلك يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ونحن نجلس في بعض المجالس فتطرح موضوعات في الطب فلا تجد إلا الأطباء يتكلمون وإذا تحدثوا في الأدب فلا تجد إلا الأدباء هم الذين يتحدثون، وأما إذا طرحت مسألة دينية إذا بك تفاجأ بأنك تجالس بين هيئة كبار العلماء فإذا سألت عن مسألة فقهية وجدت كل واحد منهم يذكر رأيه والأخر وجهة نظره، وإذا سألت عن صحة حديث وجدت نفسك تجالس مع أئمة الحديث،كالإمام أحمد، والحافظ بن حجر، فهذا يصحح الحديث، والأخر يضعف الحديث، والله المستعان.

وذكر أبو عمر بن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دُفعت إليك، لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله لا أحسنه.

وقال القاسم أيضاً: والله لئن يُقطع لساني أحبُّ إليَّ من أن أتكلم بما لا أعلم.

وقال يحيى بن سعيد: سمعت القاسم بن محمد يقول: لأن يعيش الرجل جاهلا بعد أن يعرف حق الله عليه خير له من أن يقول مالا يعلم… تهذيب الكمال ج: 23 ص: 433.

 

وكان سعيد بن المسيب رحمه الله لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني". وجاء رجل إلى سُحنون ( من فقهاء المالكية ) يسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله، اليوم ثلاثة أيام؛ فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سُحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف، إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضي تجاب في مسألتك في ساعة؛ فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك؛ قال: فاصبر؛ ثم أجابه بعد ذلك. وقال سُحنون: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، فقال: تفكرت فيه وجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الرجل فيستمتع بامرأته ورقيقته وقد باع المفتي دينه بدنيا  هذا".

 

أسباب الجرأة على الفتيا: 

الهوى وهو: المرض العضال الذي تنتهك بسببه كثير من الحماقات، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من المهلكات فقال: "ثلاث مهلكات هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه" أخرجه الطبراني، وقال الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 3045 في صحيح الجامع، وما ذاك إلا ضعف في الإخلاص وفساد في الإرادة ولا يسلك هذا السبيل إلا من كان قلبه كالقبر أو البيت الخرب، ولا تجد صاحب هوى يخطو خطوة في طريق القربة إلى الله عز وجل لإصلاح نيته، وتقويم قلبه وتذكر لقبره الذي سيدخله عما قريب، ولو فعل ما ظاهره القربة إنما هو لزيادة الحصيلة العلمية لمماراة السفهاء ومجادلة العلماء، وللتفوق على الأقران، فبئس النية نية تحول دقة الطريق على الله فيلبس الأمر على صاحبها في طريقه إلى الله حتى يصير المشرق عنده مغرباً والمغرب مشرقاً، قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ  لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (محمد: 14.(

 

العجب والاغترار وهو: أن يُعجب المرء بنفسه، ويغتر بعلمه فيقدم على الفتوى، وإكثار الكلام وإن لم يعلم، ومما يؤسف له أن داء العجب أشد فتكاً بدين الإنسان من الهوى، وقد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فتقوى الله في السر والعلانية والقول بالحق في الرضى والسخط والقصد في الغنى والفقر. وأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن". رواه البيهقي في شعب الإيمان. باب الظلم وهو حسن. وذلك أن خطر داء العجب عظيم فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر آفات كثيرة لا تخفى على عباد الله، وأما مع الله فالعجب يدعو إلى إهمال الذنوب ونسيانها فلا يحدث لها توبة ويستعظم أعماله وطاعته، ويمن على الله بفعلها. والمعجب يغتر بنفسه وبراية و يأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ ويمنعه عجبه من سؤال أهل العلم فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهالك ومن أعظم آفاته أن يفتر في السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح…نسأل الله العظيم حسن التوفيق لطاعته… البحر الرائق لأحمد فريد.

 

الاستحياء والخوف من التجهيل: فهو يظن أنه لو قال لا أدري، أو لا أعلم أن هذه سبة في حقه وفي شخصه، وأن السائل سيرميه بالجهل وعدم العلم، ويخاف أن يسقط من أعين الحاضرين. 

الجهل ذاته: فلا يجسر على الفتوى ويتجرأ على أعلم إلا الجاهل الذي لم يشم للعلم أدنى رائحة، وذلك أنه إما أن يذكر الدليل على كلامه في المسألة الشرعية من الكتاب أو السنة أو قول السلف من علماء الأمة ويحيل السامع إلى مظانها… فهذا معه أثارة علم، وإما أن يتشدق ويثرثر ولا يحيل على المظان، ولا يستدل ببرهان فيكون هذا عين الجهل والبهتان، وذلك أن المسألة لا تحتمل إلا أمراً من أمرين: إما العلم، وإما الجهل

 

علاج أسباب الجرأة على الفُتيا:

  أولاً: علاج الهوى: وذلك بأن يعلم أن الهوى مضاد تماماً للقرآن والسنة، وأن الله قد قسم الناس قسمين: أتباع الوحي، وأتباع الهوى، فقال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ (القصص: من الآية50) فليس ثم قسم ثالث، وليعرض نفسه هذا العرض الدقيق الذي يحدد قيمة العبد عند ربه، ثم يعلم أن الهوى ما سمى هوى إلا لأنه يهوي بصاحبه في المخاطر، وأن اتباع الهوى دليل على ضياع المروءة، وضعف الدين، وفساد العقل ؛ لأن هذه الثلاث تنهى عن اللذة التي يعقبها ألم، وعن الشهوة التي تورث الندم، والهوى ضدها يدعو على ذلك ألا ترى أن الطفل يؤثر ما يهوى و إن أدًَاه إلى التلف لضعف ناهي العقل عنده، وأن ما لا دين له يؤثر هواه وإن أدًَاه إلى هلاكه في الآخرة لضعف الوازع الإيماني، وأن من لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته، أو أعدمها لضعف ناهي المروءة عنده. قال الشافعي: (( لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته ))، وحتى يتخلص مما قد وقع يستعين بحول الله وقوته بمثل هذه الأمور وهي:

1. جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.

2. قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير العيش أدركه العبد بصبره.

3. أن يفكر في حسن عاقبة الصبر ففيه الشفاء الذي لا مرض بعده.

4. أن يفكر في ألم اتباع الهوى حيث الضيق والهم والغم.

5. إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى، وفي قلوب عباده وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى.

6. أن يتفكر في قهر إبليس ورده خاسئاً مغتاظاً ؛ وذلك بمخالفة الهوى.

7. أن باتباعه لهواه يصير الحيوان البهيم أحسن حالاً منه ؛ فالحيوان يميز بطبعه بين مواقع ضرره ومنافعه، فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أُعطي العقل، فإذا لم يميز الضار من النافع كان الحيوان البهيم أحسن حلاً منه.

8. أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من اتباع الهوى وهذا لا يتعدى دقائق معدودة وليحدث نفسه بم يشعر بعد هذه الدقائق، وما هي منزلته عند الله بعد اتباع الهوى، وبيان ذلك: أن الفُتيا بغير علم أو الجرأة على الفتيا إنما هي دقائق يتحدث فيها عن حكم الشرع في المسألة الفلانية فيخشى تفويت المنزلة في قلوب الخلق بقوله: (( الله اعلم )) فإذا به يقتحم أبواب جهنم، ثم ينسى الناس هذه المسألة ولم يعد لها في خاطرهم ذكر، ويبقى ألم الجرأة على الله في قلبه هماً وغماً وضيقاً، وكأن لسان الحال: ياليتني صبرت هذه الدقائق فماذا نلت فيها إلا ثلم المروءة، وضعف الدين وفساد العقل. فليكن الإنسان منا حذراً فطناً لبيباً. 

 

ثانياً: علاج العجب: وذلك أن يتذكر أن ما عنده من العلم إنما هو محض فضل ومنه ونعمة من الله، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ(النحل: من الآية53)، وأعظم النعم هي نعمة الهداية والتوفيق للعلم والعمل، فمنشأ العجب هو الجهل وكفران نعمة الله على عبده، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(النور: من الآية21)، ويعلم العبد أنه مهما بلغ في العلم والعمل فإنه لا يدخله الجنة إلا أن تدركه الرحمة الربانية،كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ "، ومما يستعان به في رفع العجب بالعلم الذي يجرئه على الفتيا أن يتذكر علم أسلاف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فأين هو من الإمام الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، أو أحمد بن حنبل ؟. أم أين علم من علم شيخ الإسلام ابن تيمية ؟. كلما قرأ العاقل اللبيب لابن حجر، أو النووي، أو شيخ الإسلام ابن تيمية فلولا رحمة ربي لأصيب باليأس والإحباط في طريق العلم لما حباهم الله من الغزارة في شتى علوم الشرع، ولو كان ثم علم يفتخر به أو يعجب به الإنسان علم غيره لكان هذا العلم، ولكن هو محض منة من الله عليهم فليحذر المسلم تلبيس إبليس، وأن يكون هدفه ومنتهى غايته إرادة وجه الله، لا عجباً بعلم، ولا حظاً لنفس، لا نيلاً لمنزلة في قلوب الخلق. اللهم حسن النيات، ويسر الخيرات واستر العلات.

 

ثالثاً: علاج الاستحياء والخوف من التجهيل: فمن أفضل الأدوية علاجاً لهذا المرض قول على رضي الله عنه: (( وا بردها على الكبد))، وانتبه أيها العاقل اللبيب فإن علياً رضي الله عنه يقصد برد الإخلاص واليقين في قلوب غرس الله كرامتها بيده فليكن لك في هؤلاء أسوة حسنة حتى تهدا نفسك، ويسترح قلبك ببرد الإخلاص واليقين، وليعلم كل منا أن الطريق إلى الله ليس مزاداً علنياً في رفع أسعار المحبة في قلوب الخلق، والتقرب إليهم على حساب الدين، وإنما طريقنا قربة إلى الله نصرةً لدينه ؛ بتبيين أحكام الله على ضوء شريعة الله. اللهم شرفنا بنصرة دينك.

 

وأخيراً أيها الكرام: اتقوا الله فإنكم في زمان رقًَ فيه الورع، وقل فيه الخشوع، وحمل العلم مفسدوه ؛ فأحبوا أن يعرفوا بحمله، وكرهوا أن يعرفوا بإضاعته، فنطقوا فيه بالهوى لما ادخلوا فيه من الخطأ فذوبهم ذنوب لا يستغفر منها، وتقصيرهم تقصير لا يعترف به زمان، كما قال القرطبي: (( عم فيه الفساد،وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية بل للظهور في الدنيا، وغلبة الأقران بالمراء والجدل الذي يقسي القلب، ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى، وترك الخوف من الله.…..))، فهلموا يا دعاة الحق، يا من تنهون عن الفساد في الأرض، وقفوا بالمرصاد لهذه الضراء المضرة، والفتنة المضلة حتى تقضوا على أمر يحبه إبليس، ويبغضه الله بما هو آتٍ.

 

مقترحــــــات:

1. مطالبة كل من عرف بالجرأة على الفتيا بالدليل الشرعي بالإسناد،كما قال السلف: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، فإما أن يهتدي إلى سبيل العلم وطريقه الصحيح، وإما أن يكفيكم شره ؛ لخوفه من المسائلة أمام الناس، واستحياه وكبره أن ينقص من أعين الناس.

2. ناقل الفتوى ليس بمفتي، فإذا سُئل قال: أسأل لك أهل العلم وآتيك بالإجابة، فإذا جاء بالإجابة اسند القول إلى قائله أي إلى العالم.

3. ضرورة التضييق، والإلحاح بالنصح، والإحراج لكل من علم عنه الجرأة في الفتيا درءاً للمفاسد وإصلاحاً لحاله بحيث ينتهي الأمر على صحة النقل، وتسنيد القول إلى قائله، وكما قيل: " إن كنت ناقلاً فالصحة…وإن كنت مدعياً فالدليل "

وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعلنا أول العاملين بما في هذا البحث حتى تصح دعوانا، ويستقيم منهجنا. اللهم ارزقنا برد الإخلاص واليقين، واجعلنا مهتدين، وارزقنا خشيتك في السر والعلن…….وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.