منع ذكر الله بالمساجد

منع ذكر الله بالمساجد

الحمد لله الذي جعل المساجد للمسلمين معابد، يتقربون بها إلى ربهم ذي الآلاء والمحامد، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم المصطفى المجتبى نبينا محمد خير ساجد وعابد، خاتم المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:

فإن المساجد بنيت لذكر الله، وإقامة الشعائر، وتعظيمها، وقد كان المسجد في أيامه الأولى محطة انطلاق إلى كافة مناحي الحياة، وقد قصر دوره في هذا الزمن على الصلاة فحسب مع أنه كان الجامعة العظمى، والمدرسة الأولى لتخريج الأجيال، ولبناء الرجال، كان معهداً للقضاء، وجامعة لتلقي العلوم، ومحلاً للتكافل والتراحم بين المجتمع، ومنبراً للتوجيه والإرشاد إلى خيري الدنيا والآخرة، وكان منارة لمداولة الآراء والكلام في واقع الناس وحياتهم، وقد بقيت بعض تلك الأدوار في زماننا بحمد الله، لكن يحتاج الكثير منها إلى الرعاية والعناية ليكون المسجد مكاناً للإصلاح والخير.

وإنك لتعجب – وما أكثر العجب في زماننا – عندما تسمع من يمنع ذكر الله – تعالى – في المساجد، ويغلق حلق القرآن، والحديث، والفقه، والتزكية، والرقائق، ويصف القائمين على المساجد في بعض البلدان الإسلامية بالتشدد والتطرف، ويصف المتساهلين بأحكام الشريعة المنتهكين للحرمات بأنهم أهل الوسطية والاعتدال، والنهج الوسط!

وهكذا تقلب الموازين، ويوصف الحق بأنه باطل، والباطل بأنه الحق .. بل وصل الأمر ببعض تلك الدول أن تغلق أبواب مساجدها بعد الصلاة المفروضة مباشرة، وتمنع مزاولة أي دعوة، أو علم، أو توجيه، أو نصح!! وفي الجانب الآخر تفتح أبواب السينما، والفنادق المشبوهة، والمقاهي المحظورة، ومحلات بيع المحرمات على مصراعيها! فرحماك يا الله.

وقد توعد الله – تعالى – من يمنع ذكره في بيوته، ويتهجم على المساجد، ويتحكم فيها بما يمليه عليه هواه، ويطرد أهل الصلاح والخير من مزاولة عبادتهم لله وذكره بقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (سورة البقرة:114). وقد نزلت هذه الآية في من منع مساجد الله – تعالى – أن يذكر فيها اسمه من اليهود، والنصارى؛ كما في بيت المقدس، وقيل: إن السبب هو أن المشركين منعوا المسلمين من ذكر الله – تعالى – في المسجد الحرام، وآذوهم، وأخرجوهم، واستبدلوا الأصنام عن عبادة الله – تعالى – وذكره ولكن مع خصوص السبب؛ إلا أن الحكم عام في كل من منع ذكر الله في المساجد أياً كان إلى قيام الساعة.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: أي: لا أحد أظلم وأشد جرماً ممن منع مساجد الله عن ذكر الله فيها، وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات؛ وَسَعَى أي: اجتهد وبذل وسعه فِي خَرَابِهَا الحسي، والمعنوي، فالخراب الحسي: هدمها، وتخريبها، وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام لكل من اتصف بهذه الصفة، فيدخل في ذلك أصحاب الفيل، وقريش حين صدوا رسول الله  عنها عام الحديبية، والنصارى حين أخربوا بيت المقدس، وغيرهم من أنواع الظلمة الساعين في خرابها، محادة لله، ومشاقة، فجازاهم الله بأن منعهم دخولها شرعاً وقدراً إلا خائفين ذليلين، فلما أخافوا عباد الله أخافهم الله، فالمشركون الذين صدوا رسوله  لم يلبث رسول الله  إلا يسيراً حتى أذن الله  له في فتح مكة، ومنع المشركين من قربان بيته فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. وأصحاب الفيل قد ذكر الله ما جرى عليهم، والنصارى سلط الله عليهم المؤمنين، فأجلوهم عنه.

وهكذا كل من اتصف بوصفهم، فلا بد أن يناله قسطه، وهذا من الآيات العظيمة أخبر بها الباري قبل وقوعها، فوقعت كما أخبر.

واستدل العلماء بالآية الكريمة على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد.

لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ أي: فضيحة كما تقدم وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ  وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه فلا أعظم إيمانًا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية كما قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، بل قد أمر الله – تعالى – برفع بيوته، وتعظيمها، وتكريمها فقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.

وللمساجد أحكام كثيرة، يرجع حاصلها إلى مضمون هذه الآيات الكريمة”1.

وهناك صورة أخرى من صورة منع ذكر الله فيها، وهي أن تصبح تلك المساجد أماكن للثناء على الباطل وتمجيده، ومحاربة الحق وأهله القائمين به يقول الدكتور عبد الله قادري الأهدل في كتابه “السباق إلى العقول”: وجعل أعداء الحق وأنصار الباطل هذه المساجد – التي أعدت في الأصل لتكون منطلقات للحق – منطلقات للباطل هو نفس السيرة التي سار عليها المنافقون في عهد الرسول  باتخاذهم مسجد الضرار الذي اتخذوه معارضة ومضادة لمساجد المسلمين، وفي طليعتها مسجد الرسول ، ومسجد قباء، وهم الذين قال الله – تعالى – فيهم: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

والفرق بين من نزلت فيهم الآية وبين أعداء الحق في هذا الزمان من وجهين:  الوجه الأول: أن الذين نزلت فيهم الآية لم يكونوا حكاماً للمسلمين، وإنما كانوا يتآمرون في الخفاء؛ لأن قيادة المسلمين كانت بيد الرسول الله ، ولذلك أمر  بإحراق ذلك المسجد، وأراح المسلمين شر أعدائهم المتآمرين.

الوجه الثاني: أن الذين نزلت فيهم الآية لم يستطيعوا أن يسيطروا على أكثر من مسجد واحد – وكان ذلك بمؤامرة خفية – لم تدم لهم طويلاً، أما الذين اتخذوا المساجد منطلقات للباطل في هذا الزمان فقد استطاعوا أن يسيطروا على غالب مساجد المسلمين، وبخاصة المساجد الكبيرة ذات الشأن في البلدان الإسلامية، لأنهم هم قادة المسلمين، وحكامهم، وسيطرتهم عليها مبنية على حق مشروع بقوانين، وأنظمة، وأجهزة صنعوها لأنفسهم، بحيث تعد تصرفاتهم في تلك المساجد مشروعة، وهي الأصل حسب تلك القوانين والأنظمة، وتعد تصرفات غيرهم فيها – ولو كانت هي الشرعية في الحقيقة – خارجة عن القانون والنظام، يستحق أصحابها العقاب والمساءلة، وبهذا أصبحت مساجد المسلمين – في الغالب – ينطبق عليها قول الشاعر:

حرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس

ومع ذلك يجب على أهل الحق من العلماء، والمفكرين، والخطباء أن يحرصوا على العمل في المساجد، وعدم التخلي عنها، ومحاولة القيام بما يقدرون عليه من إيصال الحق إلى عقول الناس سواء بقراءة القرآن في الصلوات، أو بالخطب والمواعظ، أو بالتدريس والتعليم. والإمام الحكيم يستطيع أن يتحين الفرص، ويفيد الناس في الحدود المستطاعة وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا.

ولا ينبغي لمن عنده القدرة على إفادة المصلين – ولو قلَّت – التخلي عن القيام بما يقدر عليه.2

نسأل الله أن يحمي المساجد من عبث العابثين، وكيد الكائدين، وأن يعين القائمين عليها على الخير والصلاح، ودعوة الناس لما فيه فوزهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.

والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 تفسير السعدي (ج 1 / ص 63).

2 السباق إلى العقول (ج 2 / ص 185-187)