الموعظـة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من الأمور التي ينبغي أن يقوم بها وأن يحرص عليها القائمون على المسجد: إحياء الموعظة في المسجد، وفي أوساط الناس، وفي التجمعات السكانية، وفي المجالس العامة، وعليهم أن يتخيروا الوعاظ الموهوبين، وأن يعملوا على تنمية تلك المواهب.
فلقد كانت مجالس النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب؛ إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين؛ كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر، وسماه الله: {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}1. سورة الأحزاب(45) (46). قال ابن رجب-رحمه الله-: "وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة كخطب الجمع والأعياد، وقد أمره الله-عز وجل- بذلك"2. قال تعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} سورة النساء(63). وقال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} سورة النحل(125)..
ولكن هناك عدة أمور ننبه عليها كل من وظف نفسه لتذكير الناس ووعظهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أو كل من يقوم على نشاط مثل هذا؛ كأئمة المساجد، واللجنات المسجدية التي تتابع مثل هذه الأمور، من هذه الأمور ما يلي:
1. أن يحرص على عدم إملال الناس، وذلك بكثرة المواعظ، بل عليه أن يتخير الوقت المناسب، والعنوان المناسب، فعن أبي وائل قال: كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك تحدثنا كل يوم؟ فقال: ما يمنعني أن أحدثكم كل يوم إلا كراهة أن أملكم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علين3.
2. أن تكون الموعظة بلغة سليمة، وفصاحة رصينة بدون تشدق ولا تقعر؛ "لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها. والبلاغة هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها في القلوب"4.
3. أن يوجز في الموعظة، وأن لا يطيل فيها إلا إذا اقتضى الحال ذلك، فقد "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقصر الخطبة ولا يطيلها، بل كان يبلغ ويوجز"5. وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: كنت أصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصدا وخطبته قصد6. وعن أبي وائل قال: خطبنا عمار -رضي الله عنه- فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيل الصلاة وأقصر الخطبة فإن من البيان سحرا)7.
4. أن يغير من نبرات صوته، فإذا اقتضى الحال رفع الصوت رفع، وإذا اقتضى خفضه خفض، فقد "كان النبي -صلى الله عليه وسلم يتغير حاله عند الموعظة؛ كما قال جابر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم8.
5. أن يختار الألفاظ الجامعة المانعة في موعظته، فقد كان سيد الخطباء عليه الصلاة والسلام يتخير الألفاظ الجامعة، بل لقد أوتي جوامع الكلم، فمن جوامع كلمه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)9. ومن جوامع كلمه: (لا ضرر ولا ضرار)10. وغير ذلك بل لقد كان كل مواعظه من جوامع الكلم.
6. أن يجمع بين أسلوب الترغيب والترهيب، وهذا هو أسلوب القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، فلا يذكر الجنة إلا وأعقب ذلك بذكر النار، ولا يرغب في عمل خير إلا وأعقب ذلك بالتحذير من عمل شر، وهكذا..
7. أن ينوع في مواعظه بين المسائل العلمية والوعظية، وأن لا تكون الموعظة عبارة عن سرد نصوص فقط.. وهذا ما كان يعمله النبي في مواعظه، فكان يُعلم أصحابه في خطبه الأمور العقدية، والمسائل الفقهية، ويقرن ذلك بالتخويف بالله وبما أعده الله لمن عصاه وخالف أمره، وبما أعد لمن أطاعه واتبع أوامره.
8. أن يستحضر الإخلاص في موعظته حتى يكون للموعظة أثرها، قال بعض السلف: "إن العالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا"11.
9. أن يحرص الواعظ على أن تكون موعظته نابعة من القلب؛ قال بعضهم: "لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى القلب فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى"12.
10. أن يظهر الواعظ ذو منظر لائق، وهندامة حسنة؛ فقد أهدى عمر للنبي صلى الله عليه وسلم جبة ليلبسها إذا جاءه الوفود وفي يوم الجمعة.
11. أن يكون الواعظ عاملاً بما يقول، قال رجل لابن عباس: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟ فقال له ابن عباس: "إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل وإلا فابدأ بنفسك، ثم تلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} سورة البقرة(44). وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} سورة الصف(2)(3). قوله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} سورة هود (88). قال النخعي: "كانوا يكرهون القصص لهذه الآيات الثلاث". وقيل لمطرف: "ألا تعظ أصحابك؟ قال: "أكره أن أقول ما لا أفعل"13.
وفي الأخير ننبه إلى أنه مع هذا كله، فإنه لابد للإنسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والتذكير ولو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد لأنه لا عصمة لأحد بعده:
إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد14
والله نسأل أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم..
1 لطائف المعرف(15).
2 جامع العلوم والحكم(259).
3 رواه البخاري ومسلم.
4 جامع العلوم والحكم(259).
5 المصدر السابق نفسه.
6 رواه مسلم.
7 رواه مسلم.
8 رواه مسلم بمعناه.
9 جزء من حديث رواه مسلم.
10 رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في غاية المرام، رقم(254).
11 لطائف المعارف(17). لابن رجب.
12 المصدر السابق نفسه.
13 لطائف المعارف(17)
14 المصدر السابق نفسه..