قدسية المسجد في الشريعة الإسلامية

قدسية المسجد في الشريعة الإسلامي

قدسية المسجد في الشريعة الإسلامية

 

الحمد لله الملك المحمود، الرحيم المعبود، المعروف بالكرم والجود، أحمده سبحانه وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وسلم, وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن المسجد أسس خصيصاً لتقام فيه الصلاة، وورد اللفظ بهذه الدلالة في القرآن الكريم, قال تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} (108) سورة التوبة. ويقال له أيضاً الجامع، واختُصَّ الأزهر بذلك فقيل: الجامع الأزهر.

وعمارة المسجد من أفضل القربات إلى الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ بنى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)1.

ولم تقتصر وظيفة المسجد في أول الأمر على الصلاة بل كان المسجد أيضاً مركز الحكم والإدارة والدعوة والتشاور، كما كان محل القضاء والإفتاء والعلم والإعلام، وغير ذلك من أمور الدين والدولة، ومن ثم علت منزلة المسجد عند المسلمين, وظهرت هذه المهام في المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة الذي خطط بحيث يناسب تصميمه إقامة شعائر الصلاة بصفة خاصة ، ومن ثم صار تصميمه أساساً لتصميم المساجد الجامعة التي كانت تقام فيها صلاة الجمعة بالإضافة إلى الصلوات الخمس ولا سيما في القرون الأربعة الأولى بعد الهجرة، كما صار أهم الطرز المعمارية لبناء المساجد في العصور والأقطار الإسلامية المختلفة2.

ومع أن جميع البقاع وما فيها ملك لله تعالى، ولكن المساجد لها ميزة وشرف، حيث تختص بكثير من العبادات والطاعات والقربات، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن.

والصحيح أن المراد المساجد المعمورة للذكر والطاعة، والتي هي من خصائص البلاد الإسلامية، فلذلك تؤدى فيها الصلاة جماعة وفرادى، ويدعو فيها المسلم ربه وحده، ولا يدعو معه أحداً، فإضافتها إلى الله تعالى تقتضي شرفها وتميّزها على بقية البقاع، وذلك ما يوجب احترامها، واعتراف المسلمين بفضلها، فهي من خصائص المسلمين؛ حيث إن لكل ملة ديانة ومتعبد يجتمع فيه أهل تلك الديانة لأداء عباداتهم والتي يدينون بها، مثل الصوامع والديارات والكنائس والبيع، مع أنها في زمانها أفضل من غيرها، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (40) سورة الحـج.

ويراد بالصلوات: موضع العبادات، ولكن بعد نسخ تلك الديانات تعين منع عمارة تلك المعابد؛ لما فيها من مخالفة شعائر الإسلام، ووجب على المسلمين إظهار هذه المساجد وإشهارها، فأصبحت معالم على كل بلاد يسكنها المسلمون، حيث تتميز بهذه المساجد والتي مدحها الله بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (36) سورة النــور.

فترفع مناراتها فوق المساكن والعمارات، وتعرف بمحاريبها الموجهة إلى القبلة الخاصة بالمسلمين3.

والمسجد في الإسلام ليس مكان عبادة ومحل إقامة الصلاة فقط؛ فالمساجد في الإسلام تبنى لأكثر من ذلك, المسجد هو المدرسة التي تتربى فيها النفوس تربية روحية باتصالها بخالقها أثناء تأدية الصلاة والتعبد فيه, والمسجد هو المدرسة التي يتعلم فيها المسلمون أمور دينهم.

ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم الصحابة الإسلام في المسجد, والمسجد كان القاعدة الحربية التي تجتمع فيها الجيوش، وتعقد فيها الألوية، وتنطلق للجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام, والمسجد كان دار القضاء والإفتاء، والدعوة والإرشاد، وتوعية المسلمين, والمسجد كان داراً لمجلس الشورى، تناقش فيه أمور الأمة على ضوء الكتاب والسنة.

تلك هي جزء من رسالة المسجد في الإسلام، فرسالة المسجد في الإسلام شاملة لا تدع أمراً من أمور الدين والدنيا إلا أحصته4.

ولنتساءل ونقول: من أين يستمد المسجد هذه المكانة وتلك الخصال؟

للجواب عن هذا التساؤل نقول:

أليست المساجد بيوت الله؟ أليس عمارها الخلصاء من عباد الله؟ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (18) سورة التوبة. وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن. ويقول –جل وعلا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (36-38) سورة النــور.

إن المرء المسلم هو الذي يؤمن بالله ويعظمه ويعظم شعائر الله تعالى ويتعلم ما يجب عليه، وماله وما عليه حتى يكون إيمانه عن علم ويقين وعمله مرضي صحيح, وإن المرء المسلم هو الذي يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم يبرهن على صدق إيمانه بإتباع ما جاء به هذا الرسول العظيم، وإن من أهم ذلك الارتباط بالمساجد تعميراً بالمال والأبدان، وتعلق القلوب بها تعبداً وتعلماً، وإن من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْاجِدِ)5.

فعلينا أن نقتدي بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلفنا الصالح في جعل المساجد مراكز لكل خير بعد حسن رعايتها تنظيفاً وتطييباً, كما أنه علينا أن نسعى في إرجاع الآبقين على ربهم إليها، الذين جعلوا الملاهي والمقاهي مراكزاً لهم فهجروا المساجد، نرجعهم بالكلمة الطيبة ونحذرهم عاقبة صدودهم عن ذكر الله وعن الصلاة في الدنيا قبل الآخرة.

وأخيرا:ً فإن الحديث عن المساجد ومالنا فيها من خير، وما علينا نحوها من واجب يطول، ولنا فيما سمعنا إذا امتثلنا عظة وعبرة6.

فنسأل الله أن يمن علينا بتعظيم حرماته, وأن يجعلنا ممن عظم شعائره جل وعلا, {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) سورة الحـج. والله أعلم, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه الطبراني في الكبير -670- (11/309) وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (269).

2 من مقال لـ(أ.د/حسن الباشا) في كتاب مفاهيم إسلامية (ص276).

3 فصول ومسائل تتعلق بالمساجد، للشيخ عبد الله الجبرين.

5 رواه البخاري -6308- (21/74) ومسلم -1712- (5/229).