زيارة مقبرة

زيارة مقبرة

 

زيارة مقبرة

 

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أمَّا بعدُ:

فإنَّ سنة الله–عَزَّ وجَلَّ-في المخلوقات ماضية، فلا راد لحكمه سبحانه، وقد حكم وهو العدل على مخلوقاته بالفناء، فكل المخلوقات ستفنى، قال الله -تعالى-:{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } الرحمن: 26،وقال:{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } القصص: 88، وقال:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } العنكبوت: 57، ولما كان الإنسان ليس كغيره من المخلوقات التي خلقها الله-عَزَّ وجَلَّ-، فهو مُكلَّفٌ بتكاليف من عند الذي خلقه، وسيرجع إليه عاجلاً أم آجلاً، فليست نهايته كنهاية المخلوقات الأخرى، فالإنسان مجازى على أعماله، فإما جنة أو نار، فعمله ليس مثل عمل المخلوقات؛ لأنه قد خصه الله بالقيام بتكاليف الشريعة،والعمل بها، وجعل له إذا استجاب وأطاع جنة عرضها السموات والأرض، وإذا خالف وأعرض، وجحد وكفر ناراً تلظى، فليختر الإنسان لنفسه أي الطريقين شاء.

ونتيجة لانشغال المسلم بأعمال كثيرة في حياته الدنيا، من طلب للرزق،ومشاكل الأولاد، والمشاكل التي تأتيه من قبل الآخرين، وغيرها من الأمور،ينسى الأجل المحتوم الذي ينتظره، والذي هو ذائقه لا محالة، فيريد الإنسان شيئاً يذكره،حتى يراجع نفسه ويعمل لآخرته.

وقد شرعت لنا زيارة المقابر التي تحوي الأجساد التي قد ذاقت الموت،وهذه الزيارة شرعت ليتذكر الإنسان أجله المحتوم،ويتذكر أنه سيكون يوماً ما مثل هؤلاء الأموات تحت هذا التراب،فلا ينفعه في تلك الحفرة الموحشة إلا عمله الصالح، ويتذكر الآخرة وأنه سيحاسب ويُجازى على عمله صالحاً كان أو سيئاً، فيبادر إلى التوبة،ويكثر من الأعمال الصالحة، ويتحلل من حقوق المخلوقين، ويستسمح من الذين ظلمهم، قبل أن ينزل إلى ذلك المكان الموحش المظلم.

والنبي-صلى الله عليه وسلم- كان قد نهى عن زيارة القبور، ثم رخص في زيارتها فقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الموت) رواه مسلم: 3651

وقال ابن القيم:(كان في أول الإسلام قد نهى عن زيارة القبور؛ صيانة لجانب التوحيد،  وقطعاً للتعلق بالأموات، وسداً لذريعة الشرك التي أصلها تعظيم القبور وعبادتها،كما قال ابن عباس، فلما تمكن التوحيد من قلوبهم، واضمحلَّ الشرك,واستقرَّ الدين، أذن في زيارة يحصل بها مزيد الإيمان وتذكير ما خُلق العبد له من دار البقاء، فأذن حينئذٍ فيها، فكان نهيه عنها للمصلحة، وإذنه فيها للمصلحة(1).

فزيارة القبور تذكر الإنسان بالآخرة،وتذكره بالموت، فيرق قلبه، ويراجع نفسه، ويتزود من الأعمال الصالحة، ويبادر بالتوبة ويكثر من الاستغفار.

ولما كان أهل الحي يمثلون لُحمة واحدة،فينبغي عليهم أن يحرصوا على زيارة المقابر، حتى تحصل لهم الذكرى وترق قلوبهم.

 ويجدر في مثل هذا المقام أن يُنَبَّهوا على الأمور المخالفة لجناب التوحيد، ويُعلَّموا أن هؤلاء الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف يملكونه لغيرهم؟! ويحذروا من الأمور التي تحبط أعمالهم من الشركيات، التي يعتقدها بعض الجهال في الموتى، فبهذا يحصل لهم الخير الكثير، من خلال تلك الزيارة.

نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجعلنا من المتقين، ويغفر لنا ذنوبنا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 – حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (9/44).