إدارة الخلافات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإن الخلاف على تنوعه طبيعة من طبائع البشر منذ القديم، وقصة ابني آدم عليه السلام دليل على أن الخلاف قد يوقع الحقد والضغينة حتى بين الأخوين من أب واحد، وحتى في المجتمعات التي كانت قريبة من الوحي الإلهي كمجتمع الصحابة حدث خلاف بين أفرادها كاد أن يفضي لقتال، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ*وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (6-7) سورة الحجرات.
أحوال الخلاف:
طبيعة الخلافات من أي نوع أنها لا تثبت على حال معين، بل تتغير بشكل مستمر إما إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، وفيما يلي نعرض لأحوال الخلاف:
الخلاف الخفي: وهو مصدر الخلاف ومنه ينشأ وأسبابه عديدة: فالغيرة والحسد، والخوف على الرزق، وحب الظهور… إلخ إلا أنه ينحصر في نوعين: خلاف خفي بسبب الرغبة في الاستقلال بالمسؤولية أو بسبب الرغبة في الاستقلال بالموارد، والأخير يسميه بعض الكتاب “بنزاع الحصص” وغالباً لا يتعدى الخلاف الخفي المشاعر الداخلية الناتجة عن عدم الرضا في المعاملة.
الخلاف الملاحظ: ويحدث حينما يدرك أحد الأطراف الداخلة في النزاع الخلاف الخفي لدى الطرف الآخر وينشأ من أجله خلاف محسوس.
الخلاف المحسوس: والفرق بينه وبين سابقه هو كما الفرق بين رؤية الشيء والشعور به. وفي هذه المرحلة من الخلاف يمكن لطرف ثالث لم يدخل في الخلاف أن يلاحظ أن هناك نزاعاً بين أطراف الخلاف وعادة ما يمكن البدء في حل الخلاف من هذه المرحلة قبل أن يستفحل الأمر إلى المرحلة التي تليه وهي مرحلة:
الخلاف الجلي: أو الظاهر، وهو الذي منه تظهر آثار الخلاف جلية إما بمشاعر متبادلة أو بأقوال حادة أو حتى بأعمال لا مسؤولة.
سياسات حل الخلاف:
يمكن أن نختار خمس سياسات لحل الخلاف من أي نوع: الانسحاب أو التنازل، التهدئة أو التلطيف، التسوية أو الحل الوسط، الإكراه أو استخدام النفوذ، أو الطرق التكاملية. وفي نقاشنا لهذه الطرق سنستخدم نموذجا طور بواسطة عالمي الإدارة: “بلايك وموتون”.
1 – سياسة الانسحاب: وتجمع بين اهتمام قليل جداً بالنتائج واهتمام قليل جداً بالعلاقة مع الناس فالشخص المنسحب أو الهروبي شخص يرى الخلاف الذي نشأ هو خبرة لا نفع منها، وبالتالي فإن أحسن شيء هو الانسحاب من مصدر الخلاف – أنه مستعد لأن يذعن حتى يتلافى عدم التوافق أو التوتر، ولن يشارك أيضا في حل نزاع بين الآخرين. الهروبي يعمد إلى أن يغير موضوع الحديث بسرعة عندما يحس بأن هناك بداية لخلاف وقد يتغاضى عن ملاحظات أو نقد. طريقة أخرى بأن يرمي المسؤولية على فرد أكبر منه درجة أو قد يغفل أمر الخلاف على الأقل أن ينسى الطرف الآخر، وهذه السياسة إن كانت ناجحة في بعض حالات الخلاف إلا أنها تغفل أن أسباب الخلاف لا زالت قائمة واجتناب الخلاف لن يجعلها تختفي.
2 – سياسة الإكراه: وهي سياسة للذين يهتمون بالنتائج أو المهمة التي هم بصددها ولا يلقون بالاً للعلاقات مع الناس الآخرين أبدا. والأفراد الذين ينتهجون هذه السياسة يحرصون في أي خلاف أن يخرجوا منتصرين مهما كلفهم ذلك، وتؤثر هذه السياسة على ألفاظهم وتصرفاتهم بينما تحل هذه السياسة الخلافات بشكل سريع فإنها تؤثر على الأهداف بعيدة المدى وعلى إنتاجية الأفراد ما دام أن هناك طرفاً واحداً سيستمتع بالانتصار.
3 – سياسة التهدئة: والأفراد الذين ينتهجون هذه السياسة يحاولون جهداً أن يتعاملوا مع الخلاف بجعل أطرافه راضية وسعيدة. فهم يهتمون بالعلاقة مع الناس إلى درجة كبيرة حتى لو تصادمت مع مصالحهم وواجباتهم. الأفراد من هذا النمط يرون أن التحدي والمجابهة مدمرة، ولذا فهم عند بدء الخلاف يعمدون إلى أن يكسروا حاجز التوتر بطرفة أو بكوب من القهوة أو بأي نشاط اجتماعي كإقامة حفلة. وبالرغم من أن هؤلاء يقيمون علاقات ودية مع جميع الأفراد إلا أن سياستهم قد لا تفيد دائماً وخصوصاً في حالات الخلاف القوي.
4– سياسة التسوية: أو إمساك العصا من المنتصف، وهي سياسة وسط بين التهدئة والإكراه. وهذه السياسة تشعر الأطراف في أي نزاع أنهم رابحون لأول وهلة مع أنهم في حقيقة الأمر خاسرون، لأن هذه السياسة تعطي بعض الكسب لكلا الطرفين بدلا من نصر من جانب واحد، ولذا تعد هذه السياسة في معظم الخلافات سياسة مرضية.
فيما سبق من سياسات ليس ضروريا أن ينتهجها أطراف النزاع أنفسهم، بل يمكن أن يقوم بفض النزاع طرف ثالث من خارج أطراف النزاع.
5– سياسة التكامل: أو سياسة الأطراف الرابحة، وهي سياسة تمثل قمة النجاح والفعالية لحل الخلافات إلا أنها تتطلب مهارة إدارية واتصالية عالية المستوى. وهي طريقة مشتركة لحل المشاكل يلزم لجميع الأطراف افتراض وجود حل ما وبالتالي هم يجهدون لهزيمة المشكلة لا أنفسهم. وحتى تنجح هذه السياسة بشكل فعال لا بد من توفر أربعة مسلمات لدى الشخص الذي بصدد تطبيقها:
أ- التيقن أن التعاون أفضل من التنافس، وقد يكون اختلاف الآراء جزءاً هاماً من عملية التعاون.
والآراء المختلفة قد تؤدي إلى التبصر والإبداع ما دام ذلك لا يعيق تقدم المجموعة في عملها، ولذا فلا بد من أن نوقن أن آراء الآخرين قد تكون مفيدة.
ب- عامل الثقة مهم في هذه السياسة، فالأطراف التي يتوفر فيها عامل الثقة لن تخفي أو تحرف أي معلومات مفيدة لحل الخلاف.
ج- لا بد من تقليل حالات التباين بين الأطراف المختلفة.
د- التيقن بوجود حل للخلاف، فإذا لم يتوفر هذا الشرط أو لم يوقن أحد الأطراف باحتمالية وجود حل فإن العملية تنقلب إلى خاسر ورابح بدلا من رابح ورابح، فلا بد من التأكد من هذه المسلَّمة، وإلا فإن عملية حل النزاع تصبح مضيعة للوقت.
أنماط الناس في الخلاف:
لو نظرنا إلى سلوك الناس مع الخلافات لوجدنا أن لكل منهم نمطاً وسلوكاً يختلف عن الآخر، فيما لا تتشابه إلا في النادر جداً.
ولأجل ذلك نذكر بعض هذه الأنماط من السلوك الإنساني؛ ليمكن التعاون إلى حد ما في حل المشاكل والخلافات، ومن هذه الأنماط:
§ نمط السلحفاة “انسحابي”:
تعمد السلحفاة إلى الهروب والاختباء داخل صدفتها عند تعرضها لأي نوع من الخلاف أو الهجوم، إنها تلغي من حساباتها أهدافها الشخصية ولا تأبه بعلاقاتها مع الآخرين.
ومن صفاتها أنها تبقى بعيداً عن القضايا التي تكون مناخاً خصباً لأي نوع من الخلاف، ومن الناس الذين يشتهر أنهم ذوي طباع محبة للنزاع، ومن ثم فهي لا تؤمل أبداً في أن تشترك أو تحاول أن تحل نزاع الآخرين؛ لأنها تعتقد بشكل قاطع أن الهروب أو الانسحاب “جسدياً ونفسياً” أسهل بكثير عند حالات النزاع من مواجهته.
§ نمط سمك القرش “هجومي قسري”:
هذا النمط يمتاز بأنه يحاول إخضاع الخصوم بواسطة القسر لقبول رؤيتهم أو حلولهم للخلاف.
أهدافهم وغاياتهم لها أهمية كبيرة عندهم بينما لا يرون أي قيمة لعلاقاتهم مع الآخرين. القرش يريد أن يحقق أهدافه مهما كلفه ذلك، ولا يهتم بحاجات الآخرين، ومن ثم فهو لا يهتم ما إذا قبله الآخرون أم رفضوه.
أسماك القرش تفترض أن النزاع يسوى بخسارة وربح ويحرصون على أن يكونوا هم الرابحين. الشعور بالنصر يولد لديهم إحساساً بالزهو والبهجة وأنهم قد تمكنوا من تحقيق أغراضهم.
§ نمط الدب الوديع “التهدئة”:
العلاقات مع الآخرين لدى هذا النمط أهم بكثير من الأهداف الشخصية، الدببة الوديعة تريد أن تكون محبوبة ومقبولة من الآخرين. إنهم يظنون أنه يجب تجنب الخلاف لصالح أن تكون هناك علاقة حسنة، وأنه لا يمكن إيجاد حل للخلاف بدون جرح لمشاعر الآخرين. إنهم يتنازلون عن حقوقهم في سبيل أن يرضى الآخرون عنهم وأن تستديم صداقتهم.
§ نمط الثعلب “الحل الوسط”:
الثعلب يحاول بمكر أن يتنازل عن جزء من طلباته، حتى يتنازل الخصم عن جزء أيضا وصولا إلى حل وسط يجد فيه كلا الطرفين بعضا مما كان يبتغيه ويطلبه.
قد لا يتمكن الثعلب من إقامة علاقة ودية كبيرة مع خصمه ولكنه يرضى بذلك ما دام قد تحقق له بعض مما كان يريده.
الثعلب ينتهج سياسة متوسطة بين ما ينتهجه سمك القرش وما ينتهجه الدب الوديع.
§ نمط البومة الحكيمة”التكامل”:
البومة الحكيمة تعطي قيمة عالية لأهدافها ولعلاقاتها مع الآخرين، إنها ترى الخلاف على أنه مشكلة تبحث عن حل، وبالتالي فهي تنقب عن حل يرضي الأطراف المتنازعة بحيث يحقق هذا الحل أهدافها وأهداف الآخرين مع الإبقاء على العلاقة الجيدة، وهي ترى الخلافات شيئاً طبيعياً بشرط أن يتفهم كلا الطرفين أن هناك حلاً لما يكدر خاطرهما وذلك بإزالة أسباب الشحناء، وإبعاد روح التحفز للمهاجمة، وإحلال التفاهم والتعاون كبدايات لعلاقات طيبة.
البومة الحكيمة لن يقر لها بال، ولن ترضى حتى تصل إلى مثل ذلك الحل للخلاف الذي تقع فيه.
وهكذا، فالناس بطبائعهم يمثلون هذه الأنماط أو الأساليب، فمنهم من يمثل السلحفاة في طباعه أثناء الخلاف، ومنهم من يمثل القرش، ومنهم من يمثل الدب، ومنهم من يمثل الثعلب، ومنهم من يمثل البومة.
فعلى قدر معرفتك لطبائع الناس تعرف كيف تدير خلافك معهم، وتتصرف مع كل بالتصرف المناسب.1
أسأل الله تعالى أن يصلح ذات بيننا، وأن يقوي علاقاتنا على الحق والتقوى، وأن ينقي قلوبنا من كل مرض، وأن يصلح ما فسد من أعمالنا، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.