مكث المحدث في المسجد

مكث المحدث في المسجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، أما بعد: سنتلكم في هذا الدرس عن لبث المحدث في المسجد، والحدث كما هو معلوم نوعان: أصغر وأكبر، أما المحدث حدثاً أصغر فيجوز له المكث في المسجد بلا كراهة. وأما صاحب الحدث الأكبر فذهب جمهور أهل العلم، والفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة؛ إلى أنه لا يجوز للجنب والحائض المكث في المسجد، وأما مرورهما فيه فلا حرج، وتلحق بها النفساء، واحتجوا بقول الله – تعالى -: وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (النساء:43). واستدلوا أيضاً بما جاء فى الصحيحين عن أم عطية – رضي الله عنها – قالت: أمرنا النبي  أن نخرج فى العيدين العواتق؛ وذوات الخدور؛ وَالْحُيَّض؛ وَلْيَشهَدنَ الْخَيرَ، وَدَعوَةَ الْمؤمِنِينَ، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين، قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ: آلْحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا”1 فحمل الجمهور الأمر باعتزال المصلى على الاستحباب، لأن مصلى العيد – فى الخلاء – وليس بمسجد، وقال الحافظ فى الفتح: “وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله، ولا مواطن الخير؛ كمجالس العلم والذكر؛ سوى المساجد”2. وهذا الاستدلال قوي لأن شهود الحائض لصلاة العيدين قيده الرسول باعتزال المصلى، والمصلى كما هو معلوم أخف من المسجد، فكيف لو كانت الصلاة فى المساجد؟

إذاً أمره للحيَّض اعتزال المصلى دليل أن المسجد من باب أولى.

واستدل المانعون (وهم الجمهور) أيضاً بما رواه مسلم وغيره عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال لي رسول الله  : ناوليني الخمرة (السجادة) من المسجد فقلت: إني حائض فقال: إن حيضتك ليست في يدك3، فامتناع عائشة – رضي الله عنها – من تناول السجادة من المسجد وهي حائض؛ فيه دليل على أن المعلوم عندها أن الحائض لا تدخل المسجد، واستدلوا بما روى أبو داود عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله  : إني لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب4، وبما روى ابن ماجة عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله : إن المسجد لا يحل لحائض، ولا جنب5، وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء (6 /272): ما حكم الشرع في حق المرأة التي تدخل المسجد وهي حائض للاستماع إلى الخطبة فقط؟ فأجابوا: “لا يحل للمرأة أن تدخل المسجد وهي حائض، أو نفساء … أما المرور فلا بأس إذا دعت إليه الحاجة، وأمن تنجيسها المسجد لقوله تعالى: وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (النساء:43) والحائض في معنى الجنب؛ ولأنه أمر عائشة – رضي الله عنها – أن تناوله حاجة من المسجد وهي حائض”6انتهى.

وسئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: هل يجوز للحائض حضور حلق الذكر في المساجد؟ فأجاب: “المرأة الحائض لا يجوز لها أن تمكث في المسجد، وأما مرورها بالمسجد فلا بأس به بشرط أن تأمن تلويث المسجد مما يخرج منها من الدم، وإذا كان لا يجوز لها أن تبقى في المسجد فإنه لا يحل لها أن تذهب لتستمع إلى حلق الذكر، وقراءة القرآن، اللهم إلا أن يكون هناك موضع خارج المسجد يصل إليه الصوت بواسطة مكبر الصوت فلا بأس أن تجلس فيه لاستماع الذكر، لأنه لا بأس أن تستمع المرأة إلى الذكر، وقراءة القرآن كما ثبت عن النبي  أنه كان يتكئ في حجر عائشة فيقرأ القرآن وهي حائض، وأما أن تذهب إلى المسجد لتمكث فيه لاستماع الذكر، أو القراءة؛ فإن ذلك لا يجوز، ولهذا لما أُبلغ النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع أن صفية كانت حائضاً قال: أحابستنا هي؟7، ظن  أنها لم تطف طواف الإفاضة، فقالوا: إنها قد أفاضت، وهذا يدل على أنه لا يجوز المكث في المسجد ولو للعبادة، وثبت عنه أنه أمر النساء أن يخرجن إلى مصلى العيد للصلاة، والذكر، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى”8انتهى.

وسئل الشيخ ابن باز ونص السؤال: ” عندنا مسجد يتكون من ثلاثة أدوار: الدور الأعلى مصلى للنساء، والدور الذي تحته المصلى الأصلي، والدور الذي تحته وهو عبارة عن قبو فيه المغاسل، ومكان للمجلات، والصحف الإسلامية، وفصول دراسية نسائية، ومكان لصلاة النساء أيضاً، فهل يجوز للنساء الحُيّض دخول هذا الدور السفلي؟

فأجاب: “إذا كان المبنى المذكور قد أعد مسجداً، ويسمع أهل الدورين الأعلى والأسفل صوت الإمام صحت صلاة الجميع، ولم يجز للحيض الجلوس في المحل المعد للصلاة في الدور الأسفل؛ لأنه تابع للمسجد، وقد قال النبي  : إني لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب أما مرورها بالمسجد لأخذ بعض الحاجات مع التحفظ من نزول شيء من الدم فلا حرج في ذلك؛ لقوله سبحانه: وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ (النساء:221) ولما ثبت عن النبي  أنه أمر عائشة – رضي الله عنها – أن تناوله الخمرة (وهي السجادة) من المسجد، فقالت: إنها حائض، فقال  : إن حيضتك ليست في يدك أما إن كان الدور الأسفل لم ينوه الواقف من المسجد، وإنما نواه مخزناً، ومحلاً لما ذكر في السؤال من الحاجات؛ فإنه لا يكون له حكم المسجد، ويجوز للحائض والجنب الجلوس فيه، ولا بأس بالصلاة فيه في المحل الطاهر الذي لا يتبع دورات المياه كسائر المحلات الطاهرة التي ليس فيها مانع شرعي يمنع من الصلاة فيها، لكن من صلى فيه لا يتابع الإمام الذي فوقه إذا كان لا يراه، ولا يرى بعض المأمومين؛ لأنه ليس تابعاً للمسجد في الأرجح من قولي العلماء، والله أعلم”9.

وأما المجيزون فقالوا: أن ما ورد في منع المكث في المسجد للجنب والحائض إما غير صحيح، أو غير صريح. بل قال النبي  لعائشة – رضي الله عنها – لما حاضت: افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، حتى تطهري10، ولم يقُل لها النبي  : لا تدخلي المسجد، وإنما نهاها عن الطواف حتى تطهر، والقاعدة المعروفة: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولذا قالت أم عطية – رضي الله عنها -: ” أمرنا (يعني النبي ) أن نخرج في العيدين العواتق، وذوات الخدور، وأمر الحيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين”11، وفي رواية للبخاري: “ويعتزلن مصلاهم”12، مع حضورهن للمصلى، فقالوا: إن هذا الاعتزال إنما هو اعتزال للصلاة، ونقل ابن حجر – رحمه الله – عن ابن المنير – رحمه الله – أنه قال: “الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال، فاستحب لهن اجتناب ذلك”13. فالحائض تشهد العيد، وتدخل المصلى، ولكنها لا تقف في صف المُصلِّيات، فلم يدل دليل صحيح صريح على منع الحائض من دخول المسجد إلا أن تخشى أن تلوّث المسجد، أما من يستدل على منع الجنب من دخول المسجد بقول الله ​​​​​​​ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ (سورة النساء:43) فهذا فيما يتعلق بقربان الصلاة لا بدخول المساجد، فالآية واضحة في نهي المؤمنين عن أداء الصلاة في تلك الأحوال، لا عن دخول المساجد، قال البغوي: “وجوَّز أحمد المكث فيه، وضعّف الحديث لأن راويه مجهول، وبه قال المزني”14، وراويه هو أفلت وهو مجهول، وتأول الآية على أن عَابِرِي سَبِيلٍ هم المسافرون تُصيبهم الجنابة فيتيممون ويُصلّون، وقد روي ذلك عن ابن عباس، وقال النووي: “وقال المزني، وداود، وابن المنذر: يجوز للجنب المكث في المسجد مطلقاً، وحكاه الشيخ أبو حامد عن زيد بن أسلم”15. وأما حديث: لا أُحلّ المسجد لحائض، ولا لجُنُب16 فقد رواه أبو داود، ومدار إسناده على جسرة بنت دجاجة، وهي مقبولة عند المتابعة، وقال البخاري في التاريخ الكبير عنها: “عندها عجائب”، ولذا قال الحافظ عبد الحق: “هذا الحديث لا يثبت”، فبقي الجُنب والحائض على البراءة الأصلية من عدم المنع من دخول المساجد، وعلى البراءة الأصلية من عدم التنجس لقوله عليه الصلاة والسلام: إن المؤمن لا ينجس17 رواه البخاري ومسلم18. خاصة مع وجود المصلحة من دخول الجُنب أو الحائض المسجد، وقد أدخل النبي  ثمامة بن أثال – وكان مشركاً – إلى المسجد، وربطه في سارية من سواري المسجد، ثم أسلم بعد ذلك، والحديث في الصحيحين، فقالوا: إذا كان المشرك لا يُمنع من دخول المسجد لوجود مصلحة؛ فالمسلم الذي أصابته الجنابة، أو من أصابها الحيض؛ أولى أن لا يُمنعوا، وقد قال الإمام النووي – رحمه الله -: “الأصل عدم التحريم، وليس لمن حرم دليل صحيح صريح”19، ويُنظر الكلام على هذه المسألة في تمام المنة للألباني – رحمه الله -، والله وأعلم20. ورأى المجيزون أن منع الحائض من دخول المسجد يحرمها كثيراً من العلم والخير، ورد الجمهور أن هذا غير معتبر، فإن الحيض يمنع النساء من الصلاة، والصيام؛ وهى من أعظم العبادات، والخلاف في هذه المسألة قوي كما سبق.

هذا ما تيسر ذكره في هذه المسألة، وصلى الله على محمد، وعلى آله، وسلم.


1– صحيح البخاري (ج2 / ص40 – 313) وفي (ج 4 / ص43 –921) وصحيح مسلم (ج4 / ص405-1473).

2– فتح الباري لابن حجر (ج2 / ص8).

3– صحيح مسلم (ج2 / ص162-450).

4– سنن أبي داود (ج1 / ص294-201) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (6117).

5– سنن ابن ماجة (ج2 / ص312-637) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع حديث رقم:1782.

6– من “فتاوى اللجنة الدائمة” (6 /272).

7– صحيح البخاري (ج6 / ص254 – 1638) وفي (ج13 / ص310-4050) وصحيح مسلم (ج7 / ص9–2353).

8–  من “فتاوى الطهارة” (ص273).

9الفتوى منقولة من: الإسلام سؤال وجواب:

http://islamqa.com/special/index.php?ref=34815&subsite=14&ln=ara

10– صحيح البخاري (ج2 / ص5 – 294) وفي (ج6 / ص92 – 1540) وصحيح مسلم (ج6 / ص221–2115).

11– صحيح البخاري (ج2 / ص40–313) وفي (ج4 / ص43–921) وصحيح مسلم (ج4/ ص405-1473).

12– صحيح البخاري (ج4 / ص56–928).

13– فتح الباري لابن حجر (ج2 / ص8).

14– تفسير البغوي (ج2 / ص220).

15– المجموع (ج2 / ص160).

16– سنن أبي داود (ج1 / ص294-201) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (6117).

17– صحيح البخاري (ج1 / ص474-276) وصحيح مسلم (ج2 / ص294–556).

18قال النووي في المجموع: “وأما القياس على المشرك فجوابه من وجهين: أحدهما: أن الشرع فرق بينهما، فقام دليل تحريم مكث الجنب، وثبت أن النبي  حبس بعض المشركين في المسجد، فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية.

والثاني: أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد فلا يكلف بها، بخلاف المسلم، وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئاً لم يلزمه ضمانه لأنه لم يلتزم الضمان، بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا.

19– المجموع (ج2 / ص160).

20- http://saaid.net/Doat/assuhaim/fatwa/177.htm