التفكير والتفكر
الحمد لله رب العالمين على ما تواتر من نعمه، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد نبي الرحمة وإمام الهدى وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن التفكير ضرورة حيوية في للناس كافة، وللمؤمن بالله خاصة، لأن الله -تبارك وتعالى- خلق الحياة الدنيا داراً للابتلاء قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (سورة الملك: 2). وذلك يستلزم التفكير الجاد للفوز والنجاح في ذلكم الاختبار.
وأيضاً فتسخير الله -تعالى- الأشياء لنا يعني قابلية تحويلها من (كم) إلى (كيف) ومن كيف إلى كم، وهذا التحويل لا يتم بمجرد الحركة؛ إذ أن هناك سنناً ثابتة تحكم عمليات التحويل تلك، ومعرفة تلك السنن من المقدمات العامة التي يحب تحصيلها..
والتفكير هو تردد العقل في جملة من المعطيات توسلاً إلى ما يرتبط بها من المجهول بطريقة منهجية مأخوذة من دلالة الشرع والعقل والفطرة والتجربة. وسوف نركز على دعامتين أساسيتين في التفكير هما:
أولاً: أهمية التفكير في حياة الناس
إن الكتاب العزيز جاء حافلاً بالآيات التي تحث المسلمين على تقليب النظر في ملكوت السماوات والأرض ليستدلوا بذلك على وجود الخالق الكريم، كما حثهم على النظر في أحوال البشر وبدايات خلق الأشياء وتحريك عقولهم بقياس أحوالهم على أحوال من سبقهم وأخذ العبرة من ذلك .. إلخ
ولعنا نستعرض بعض تلك الآيات لننعم بقبس من نورها:
(أ) في مجال التوحيد والدلالة على خالق هذا الكون يقول – جل وعلا – (إن في خلق السماوات والأرض {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (190-191) سورة آل عمران.. ويقول حاكياً حياة عالم النحل المدهش، ومعبراً عن دلالة دقة تنظيمه على وجود بارئه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (68-69) سورة النحل.
(ب) ويذكر القرآن الكريم أن من أهم ما يهدف إليه: حثُّ العقل الإنساني على التفكر والتدبر، فيقول -سبحانه-: {.. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44) سورة النحل. ويقول تباركت أسماؤه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص.
(ج) ويذكر لنا القرآن الكريم أن القصص الذي احتل مساحة واسعة منه يهدف إلى إثارة النظر والفكر حتى يستخلص العبر الهادية للناس في مسيرة الحياة فيقول –سبحانه-: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) سورة الأعراف. وقال أثناء ذكر قصة إجلاء بني النضير: { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (2) سورة الحشر. أي قيسوا أحوالكم على أحوالهم حتى لا تقعوا في مثل ما حل بهم.
(د) ويعلمنا القرآن الكريم الوقوف على بدايات الأشياء وضرورة ملاحظة الجذور حتى لا يزيغ البصر في تأمل أطوار الأشياء المختلفة فيقول –سبحانه-: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (20)سورة العنكبوت.
وخاصية التفكير من الأمور التي فيها ميزة التنوع بين البشر في المستويات العليا،وحين تحرم أمة أو مجتمع أو جماعة أو فرد من هذه النعمة الجليلة فإن الحياة تصاب بالقحط والجدب، وتفقد ماءها ورواها وتصبح الأعداد البشرية الهائلة أكداساً من اللحم والعظم!.
وإذا نظرنا في أحوال العالم الإسلامي اليوم وجدنا من الظواهر العامة الدالة على الانحراف الواقع في الأمة الإسلامية الشيء الكثير ومن هذه الظواهر على سبيل الإجمال:
القلق النفسي، ومن صوره: زوال أو ضعف الإيمان بكثير من الثوابت.
الخوف من العالم والانطواء، وضيق الأفق والحيرة، وتدهور المناخ الفكري وانعدام الحوار، وضعف التفكير.
ومن هذه الظواهر أيضاً: انعدام فاعلية المبادئ والمثل العليا أو انخفاضها، وغير ذلك من هذه الظواهر والمشاهدة التي تسيطر على حياة المسلمين إلا من رحم الله وقليل ما هم.
والتفكير السديد النشط: هو الذي يساعدنا على إيجاد المخرج من هذه الأزمات -بإذن الله تعالى-.
ثانياً:تحسين التفكير وطرقه:
إن على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنه ما من ظرف أو حالة أو موضوع إلا يمكن إدخال شيء من الإصلاح عليه بإكثار ما فيه من خير وإيجابية أو بتقليل ما فيه من شر وسلبية.
ولتحسين التفكير يمكن اتباع الخطوات الآتية:
(أ) القراءة هي البداية: إننا حين نقرأ نستثمر العقل والوقت في القراءة، وحين يشرع الإنسان في القراءة الواعية فينبغي عليه أن يكون بين يديه دائماً قلم وورقة يسجل فيها المشكلات والقضايا التي يريد فهمها وضبطها وحلها. وعلينا أيضاً أن نختار للتفكير الأوقات المناسبة، وأنسب الأوقات هي أوقات البكور، حيث يكون الدماغ قد أخذ حاجته من الراحة أثناء النوم، كما أن التفكير في أوقات النعاس يؤدي إلى اختلاط التفكير بالخيال.
(ب) مباشرة الحل لمشكلة ما: إن وجود المشكلات أمر بديهي ما دام أكبر خصائص الحياة الدنيا إنها حياة بلاء واختبار. وبداية المواجهة هي الشعور بالمشكلة، ثم تحديد هذه المشكلة، ثم صياغتها صياغة جيدة مناسبة، ثم تقسيم المشكلة إلى أجزاء رئيسية وثانوية، ثم حلها وعلاجها.
(ج) إصدار الحكم: إن الأناة في إصدار الحكم والصياغة الدقيقة لهو أمر في غاية الأهمية، مع الصبر على الملاحظة وأخذ التجربة، وهذا يساعدنا على صياغة الحل في فترات زمنية متعددة الذي يؤدي إلى المزيد من النضج والكمال الطبيعي، ومن ثم إصدار الحكم المناسب. ولا ينبغي أن ننسى أمراً هاماً هو: أن كثيراً من المعطيات التينمتلكها لحل ما قد تكون غير يقينية، مما يجعل الحكم في النهاية ظنياً، وهذا ليس ضعفاً في الحل أوحطاً من قدر النتائج، بل إن ذلك يمنح الحل إمكانات الإضافة في صيغته وتطبيقاته، وتلك من ميزات الحل الناجح..1
الخاتمة
إن المسلمين اليوم بحاجة إلى التفكير العميق المستمد من كتاب ربهم ومن سنة نبيهم -عليه الصلاة والسلام-، ومن أقوال وأفعال السلف الصالح لكي يقوِّموا حياتهم، ويحلوا مشاكلهم الدنيوية والدينية، ويتخلصوا من التبعية المفرطة لأعدائهم.
نسأل الله أن يلهمنا التفكير العميق الصحيح، وأن يعيننا على حل مشاكلنا، وأن يردنا إليه رداً جميلاً.. إنه ولي التوفيق.
1– انظر: (التفكير الموضوعي) أ.د.عبد الكريم بكار ص1-40) بتصرف واختصار.