الحسبة والاحتساب

الحسبة والاحتساب

 

الحسبة والاحتساب

 

الحمد لله، عزَّ جاهُه،وجلَّ ثناؤُه،وتقدَّست أسماؤه،في السماء ملكُه،وفي الأرض سلطانُه، وفي البحر عظمته،وفي الجنة رحمته،وفي النار سطوته،وفي كل شيء حكمته وآيته، اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخير مما نقول، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك محمد،وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان..

أمَّا بعدُ:

فإن الحسبة ولاية من الولايات الدينية،وظيفتها القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل ما ورد من النصوص في الكتاب والسنة المتعلقة بالمعروف أو المنكر،فإنما يعني القيام بالحسبة أمراً ونهياً،طلباً وتركاً.

والحسبة هي:(أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله)1 وذلك باحتساب الأجر عند الله -تعالى- في القيام بالأعمال الصالحة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعد صمام أمان المجتمعات، وإذا لم يحتسب فئات من الناس للقيام بهذا الأمر فإن الدنيا ستصبح فوضى، وبسبب ترك الأمر والنهي الشرعي ينتشر الفساد في الأرض؛ ولهذا لا تستقيم خيرية هذه الأمة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا حققت الأمة هذا الأمر في أي زمن دل ذلك على حياة المجتمعات، وإذا سكت الناس عن الشرور فإن ذلك منذر بشر-والعياذ بالله من كل شر-.

وقد جاءت الآيات القرآنية ترغب في احتساب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال-تعالى-:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)،وعلق الله خيرية الأمة المحمدية بهذا الأمر,فقال -تعالى-:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).

ولعن الله بني إسرائيل بسبب المجاملات والمداهنات وترك الاحتساب فقال-تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79).

وبين الله-تعالى-أنَّ الاحتساب من وظائف المجتمع المسلم,فقال:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).

إن مهمة إصلاح الأوضاع الفاسدة مهمة عظيمة،وهي أعظم وقاية من عذاب الله،كما قال-تعالى-:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117)،وبين الله -تعالى- أن الناجين من عذابه ونقمته هم الذين ينهون عن الفساد في الأرض,فقال: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود:116)،وقال عن أصحاب السبت من اليهود الذين تمرَّدوا وتحايلوا على حكم الله ونهي أهل الخير لهم على ما اقترفوه من جرم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165).

أما الأحاديث في هذا الحكم الشرعي -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فهي كثيرة، ومنها الحديث المشهور: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). رواه مسلم.

وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- فضل قول كلمة الحق، وأمر الولاة بالخير ونهيهم عن الشر فقال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).2

فهذه بعض النصوص التي تبين أهمية الاحتساب وعقوبة من تركه.

والمقصود أن يكون من الناس أناس يقومون به، مع أن الأصل أنه واجب كفائي إذا قام به البعض وأزيل المنكر و أقيم المعروف في مكان ما سقط الإثم عن باقي المكلفين، فكل من رأى منكراً فعليه تغييره بالأسلوب الأمثل، والحكمة والموعظة الحسنة، أما الولاة فإن لهم الحق في التغيير باليد بعد الإعذار باللسان والبيان بالقول، وكذلك كل من يستطيع التغيير باليد مع عدم وجود مفسدة راجحة فعليه أن يغير.. وأئمة المساجد والقائمون على أنشطتها يكون عليهم جزء من المسؤولية في هذا الجانب، حيث أنهم يستطيعون أن يُكوِّنوا من الشباب الأذكياء الاجتماعيين الذين يداخلون الناس، ويحسنون الحوار معهم، والتحدث إليهم ما يجعلهم أهلاً لهذا الأمر، فينبغي استغلال الشخص الحاذق الذكي الذي يستطيع الإقناع ليقوم بدوره في هذا المجال، وأن توفر لهم كافة السبل المتاحة للتأثير على الناس،وبخاصة الذي يقعون في منكرات واضحة،وأن يعان المحتسبون بالمال والوسائل الأخرى التي يستطيع بها جذب قلوب الناس، وهذا وإن كان مطلوباً من الجميع، إلا أن المشكلة تكمن في إساءة البعض إلى هذه الشعيرة العظمى حيث أنه يأمر وينهى فيفسد أكثر مما يصلح! وبدل أن كان المنكر يسيراً أصبح بسوء فعله وربما بحسن قصده أقوى وأكبر!.. فإذا عني في الحي الذي يوجد فيه المسجد بأناس لهم الخبرة الجيدة وممن يتوسم فيهم حب الخير والإخلاص فيه، فإن ذلك أولى من قيام كل من لا يحسن ذلك حتى لا يعاند أصاحب المنكر من شدَّة بعض من يحاول الإصلاح.

نسأل الله أن يتم النعمة على الأمة فتحتسب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه على كل شيء قدير..


 


1– هذا تعريف الحسبة عند الماوردي, وهو أول من ألف فيها وأفضل من عرفها انظر: (الأحكام السلطانية) ص240.

2– رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1100).