أسرار ترتيب السور

أسرار ترتيب السور

أسرار ترتيب السور

الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم إليه من الإيمان، والمتمم إحسانه بما أقام لهم من جلي البرهان، الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن؛ ليكون بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراًَ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن الله تعالى أنزل كتابه الكريم هادياً إلى ما ارتضى من دينه، وسلطاناً أوضح وجه تبيينه، ودليلاً على وحدانيته، ومرشداً إلى معرفة عزته وجبروته، ومفصحاً عن صفات جلاله وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله الذي أرسله به وعلما على صدقه، وبينة على أنه أمينه على وحيه وصادع بأمره.

ومن مظاهر تلك الدلالة على عظمة هذا الكتاب العظيم ما حباه من خصوصية ترتيب سوره المباركة، وتناسق آياته العظيمة.

وفي هذه اللحظات نتناول مبحث مهم من المباحث التي تتعلق بترتيب السور، وهو محاولة إيجاد السر في هذا الترتيب العجيب.

وهذا المبحث قد طرقه العلماء الذين يشتغلون في علوم القرآن فلا يكاد أحد يؤلف في علوم القرآن إلا وتطرق إليه ببعض الكلام.

ولعلنا في هذا المبحث نلم تلك الأقوال مع مراعاة الاختصار، فنقول:

اختلف العلماء في ترتيب السور القرآنية، فذهب الجمهور إلى أن ترتيب السور توقيفي1، أي من فعل الرسول عليه السلام وحياً.

قال صاحب الإتقان: “وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضا أو هو باجتهاد من الصحابة؟ خلاف: فجمهور العلماء على الثاني منهم مالك والقاضي أبو بكر في قوليه”.2

قال ابن فارس: “جمع القرآن على ضربين أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولته الصحابة وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولاه النبي كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، ومما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول وهو مصحف علي كان أوله اقرأ، ثم المدثر، ثم ن، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني، وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران على اختلاف شديد وكذا مصحف أُبيٍّ وغيره.3

وذهب السيوطي إلى أن الترتيب هو توقيفي باستثناء سورة التوبة والأنفال.

“وقال ابن حجر‏:‏ ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توفيقياً‏.‏

قال‏:‏ ومما يدل على أن ترتيبها توفيقي ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف … الحديث، وفيه: فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (طرأ عليَّ حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه)، قال: فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أصبحنا، قال قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من ق حتى نختم.4

قال‏:‏ فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال‏:‏ ويحتمل أن الذي كان مرتباً حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ما عداه‏.‏

قال صاحب الإتقان‏:‏ ومما يدل على أنه توفيقي كون الحواميم رتبت ولاءً، وكذا الطواسين ولم ترتب المسبحات ولاء، بل فصل بين سورها.

وفصل بين “طسم” الشعراء و”طسم” القصص بـ “طس” مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهادياً لذكرت المسبحات ولاء وأخرت “طس” عن القصص.

والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توفيقي إلا براءة والأنفال، ولا ينبغي أن يستدل بقراءته -صلى الله عليه وسلم- سوراً ولاء على أن ترتيبها كذلك‏.‏

وحينئذ فلا يرد حديث قراءته النساء قبل آل عمران؛ لأن ترتيب السور في القراء ليس بواجب ولعله فعل ذلك لبيان الجواز.

وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا وألِف القرآن على علم ممن ألفه به ومن كان معه فيه واجتماعهم على علمهم، فهذا مما ينتهي إليه ولا يسأل عنه‏”.5

وذهب البعض إلى أنه من اجتهاد الصحابة، ومن يتتبع الأدلة التي جاء بها من قال أن الترتيب من اجتهاد الصحابة يجد أنها لا تقوم بها حجة، ولا يستقيم على أساسها استدلال، وليس هذا مقام التفصيل، ولكننا لاحظنا أن القول بتوفيقية الترتيب يقوم على أدلة غير صريحة، في حين يقوم القول بتوقيفيّة الترتيب على أدلة صريحة.

هذا ما أحببنا أن نبينه في هذا المقام، وإلا فالموضوع يطول إذا تابعنا ذلك، حيث أن هناك أسراراً عديدة، وغيرها.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والحمد لله أولاً وأخراً.

 

 


 


1 الفرق بين التوقيفي من التوقيف والوقف أي أنه من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أو وحي الله له، أما التوفيقي فهو من التوفيق والاجتهاد، فهو ما كان من اجتهاد الصحابة -رضي الله عنهم-.

2 الإتقان (1/170).

3 السابق.

4 رواه الإمام أحمد برقم (19043) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف.

5 الإتقان للسيوطي(1/74).