نزول القرآن على سبعة أحرف

نزول القرآن على سبعة أحرف والحكمة في ذلك

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه الأمين، محمد بن عبد الله خاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله -سبحانه- جعل القرآن ميسرا للحفظ والفهم والتلاوة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}  سورة القمر(17)؛ قال العلامة ابن سعدي -رحمه الله-: "أي ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظا، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيرا، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم، وأجلها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيعان عليه؟"1.

 

ومن تيسير الله للقرآن تيسير قراءته؛ ولذلك فقد أنزله الله على سبعة أحرف لتيسير قراءته على جميع أصحاب اللهجات المختلفة؛ فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كذبت أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال: (أرسله، اقرأ يا هشام) فقرأ القراءة التي سمعته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كذلك أنزلت)، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقرأ يا عمر)، فقرأت التي أقرأني، فقال: (كذلك أنزلت؛ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه)2.

 

فما المقصود بقوله: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؟"؛ اختلف العلماء في بيان المقصود بالسبعة الأحرف على أقوال عدة؛ حتى أن بعض العلماء ذكر أنها خمسة وثلاثين قولاً؛ ولكن أشهر هذه الأقوال ستة أقوال:

القول الأول: أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن منزلاً بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف، فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر.

القول الثاني: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن، على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات هي أفصح لغاتهم، فأكثره بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، أو ثقيف، أو هوازن، أو كنانة، أو تميم أو اليمن ؛ فهو يشتمل في مجموعه على اللغات السبع.

القول الثالث: أن المراد بالأحرف السبعة أوجه سبعة: من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال.

القول الرابع: أن المراد بالأحرف السبعة، وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف.

القول الخامس: أن العدد سبعة لا مفهوم له، وإنما هو رمز إلى ما ألفه العرب من معنى الكمال في هذا العدد، فلفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة والكمال في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين.

القول السادس: إن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع3، وهذا القول ضعفه المحققون من أهل العلم، بل حكي الإجماع على بطلانه؛ قال ابن حجر: "وأما من ظنّ أنّ قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطاً عظيماً"4..

 

ولعل القول الراجح من هذه الأقوال هو القول الأول، وهو أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، نحو أقبل، وهلم، وعجل، وأسرع، فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، وهو قول الأكثر، ويدل عليه ما جاء في حديث أبي بن كعب قال: ما حك في صدري شيء منذ أسلمت إلا أني قرأت آية وقرأها رجل غير قراءتي، فأتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت أقرأتني آية كذا وكذا، قال: (نعم)، قال: فقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا، قال: (نعم، أتاني جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف واحد، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف كلها شاف كاف)5.

 

قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده ولا وجه يخالف وجها خلافا ينفيه، أو يضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده وما أشبه ذلك"6..

وقال ابن حجر -رحمه الله- عند شرحه لحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف": "أي على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة"7.

ولنزوله على سبعة أحرف فوائد عدة من أهمها ما يلي:

أولاً: تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلاً عن أن يكون ذلك مما ألفوه، وهذه الحكمة نصت عليها الأحاديث في عبارات، فعن أُبيّ قال: "لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل عند أحجار المراء فقال: (إني بُعِثْت إلى أمة أميين، منهم الغلام والخادم والشيخ العانس والعجوز)، فقال جبريل: فليقرئوا القرآن على سبعة أحرف"8 وغير ذلك من الأحاديث.

ثانياً: إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب، فتعدد مناحي التأليف الصوتي للقرآن تعددًا يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به الرسول العرب ومع اليأس من معارضته لا يكون إعجاز اللسان دون آخر، وإنما يكون إعجاز الفطرة اللغوية نفسها عند العرب.

ثالثاً: إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه؛ فإن تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات يتهيأ معه استنباطُ الأحكام التي تجعل القرآن ملائماً لكل عصر، ولهذا احتج الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد بقراءات الأحرف السبعة9.

هذا بعض ما يمكن معرفته حول معنى الأحرف السبعة، والحكمة من نزول القرآن العظيم على تلك الصفة.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، يا ذا الجلال والإكرام.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

 


 


1  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ (825- 826)

2 رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري.

3  راجع: مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان.

4  فتح الباري (9/31). الناشر: دار المعرفة – بيروت(1379).

5 رواه أحمد، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

6 التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد(8/284). ابن عبد البر الناشر: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب (1387هـ). تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي, ‏محمد عبد الكبير البكري.

7 فتح الباري شرح صحيح البخاري(9/23).

8 رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني وغيره، قال شعيب الأرناؤوط في التعليق على المسند: صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم.

9 راجع: مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان.