مقاصد الشريعة في العناية بحفظ القرآن الكريم

 

مقاصد الشريعة في العناية بحفظ القرآن الكريم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين..أما بعد:

القرآن دستور الأمة الإسلامية، ومنه تستمد عزتها ومجدها، قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(1) سورة إبراهيم، وهو مع ذلك الضياء الذي تحمله الأمة لسائر الناس؛ لتؤدي رسالتها، فهي خير أمة أخرجت للناس، فإذا كان هذا شأن القرآن في حياة الأمة، فما بال شأن من يحفظه ويُعنى به!

 

وسنذكر عشرة مقاصد من مقاصد الشريعة في حفظ القرآن الكريم:

أولاً: حفظ القرآن وتعلمه خير من متاع الدنيا، ففي الحديث: (أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل).1 والإبل في ذلك الزمان أنفس المال وأغلاه. وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)2. وعن أبي هريرة  -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)3. وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ لله أهلين من الناس)، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: (هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته)4. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)5.

 

ثانياً: إنّ الهدف الأسمى الذي ينشده كل مسلم ومسلمة من تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وحفظه هو التعرُّف على ما فيه من الهدى والعلم النافع، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على ما يصيبه في سبيله. فالاشتغال بالقرآن الكريم من أفضل العبادات، سواء أكان بتلاوته، أم بتدبر معانيه، فهو أساس الدين، وقد أودع الله فيه علم كل شيء، فإنه يتضمن الأحكام والشرائع، والأمثال، والحكم، والمواعظ، والتاريخ، ونظام الكون، فما ترك شيئاً من أمور الدين إلا بيَّنه، ولا من نظام الكون إلا أوضحه.

ثالثاً- حفظ القرآن سبب للتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح:

معلوم من قواعد الدين أن الله تعالى جعل محمداً -صلى الله عليه وسلم- أسوةً حسنة، ومثال يحتذي به أتباعه، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب، وحفظ القرآن فيه التأسي بالرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ كان يحفظه ويديم تلاوته ومعارضة جبريل به، فقد كان عليه الصلاة والسلام من شدة تمسكه بحفظه كان يعرض على جبريل -عليه السلام- في كل سنة مرة، وفي السنة التي قبض فيها عرض عليه مرتين، وكان يعرض على أصحابه ويعرضون عليه، ويعجل به ليستكثر منه فنهي عنه بقول تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (114) سورة طـه، ولا يسمح لأحد أن يتخلف عن حفظه أو تحفظه وتلاوته على الدوام إلا عن عذر ظاهر.

 

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم       إن التشبه بالكرام فلاحُ

ورد في تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة قوله في الأدب الأول: "وأن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها".

وقال الإمام النووي -رحمه الله- في المجموع: "كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا

لمن يحفظ القرآن".

 

رابعاً: حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة:

حفظ القرآن شعار هذه الأمة، وشوكة في حلوق أعدائها يقول (جميس منشيز): "لعل

القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم، وهو بكل تأكيد أيسرها حفظاً". وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن عياض المجاشعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم في خطبته: (…وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: "إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان")6 فقد أخبر الله تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه بكل حال، وخص بحفظه من شاء من عباده.

 

خامساً: حامل القرآن يستحق التكريم، ففي الحديث: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه… الحديث)7 فأين المشمرون؟

سادساً: الغبطة الحقيقية تكون في القرآن وحفظه، ففي الحديث: ( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ..)8 الحديث.

سابعاً: حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة، ففي الحديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وتذكر أن الصلاة عمود الدين، وثاني أركان الإسلام.

ثامناً: حفظ القرآن الكريم رفعة في الدنيا والآخرة، ففي الحديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)9.

تاسعاً: حافظ القرآن يقدم في قبره، فبعد معركة أحد وعند دفن الشهداء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع الرجلين في قبر واحد ويقدم أكثرهم حفظاً.

عاشراً- حافظ القرآن يوم القيامة يشفع القرآن لأهله وحملته، وشفاعته مقبولة عند الله تعالى، ففي الحديث: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)10 فهنيئاً لمن يشفع له هذا الكتاب العظيم في ذلك اليوم العصيب.

 

بالإضافة إلى أن:

أ- حفظ القرآن سبب للنجاة من النار، ففي الحديث: (لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق)11 رواه أحمد وغيره. ويقول أبو أمامة: "إن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن".

ب- حفظه رفعة في درجات الجنة، ففي الحديث: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها)12. والحديث خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها.

ج- حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة، ففي الحديث -اللفظ للبخاري-: (مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة)13 فيا له من شرف أن تكون مع من قال الله فيهم: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} عبس:13ـ16.

د- حافظ القرآن أكثر الناس تلاوة له، فحفظه يستلزم القراءة المكررة، وتثبيته يحتاج إلى مراجعة دائمة، فهو يقرأ في كل أحواله، فبإمكانه أن يقرأ وهو يعمل أو يقود سيارته أو في الظلام، ويقرأ ما شياً ومستلقياً، فهل يستطيع غير الحافظ أن يفعل ذلك؟ وفي الحديث: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثاله)14.

هـ- وحافظ القرآن لا يعوزه الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في حديثه وخطبه ومواعظه وتدريسه، أما غير الحافظ فكم يعاني عند الحاجة إلى الاستشهاد بآية، أو معرفة موضعها.

فهل بعد هذا نزهد في حفظ ما نستطيع من كتاب الله؟!15..

هذا ما تيسر ذكره من مقاصد الشريعة في حفظ القرآن، والله أسأل أن يوفقنا إلى حفظه والعمل به، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 – صحيح مسلم – (ج 4 / ص 229 – 1336)

2 – صحيح البخاري – (ج 15 / ص 439 – 4639)

3 – صحيح مسلم – (ج 13 / ص 212 – 4867) وفي (ج 13 / ص 213 – 4868)

4 – سنن ابن ماجه – (ج 1 / ص 250 – 211) ومسند أحمد – (ج 24 / ص 377 – 11831) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب – (ج 2 / ص 80 –  1432)

5 – صحيح مسلم – (ج 4 / ص 252 – 1353)

6 – صحيح مسلم – (ج 14 / ص 24 – 5109)

7 – سنن أبي داود – (ج 12 / ص 473 – 4203) وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 2195 )

8 – صحيح البخاري – (ج 15 / ص 437 – 4638) وفي (ج 23 / ص 58 – 6975) وصحيح مسلم – (ج 4 / ص 249 – 1350)  

9 – صحيح مسلم – (ج 4 / ص 252 – 1353)

10 – صحيح مسلم – (ج 4 / ص 231 – 1337)  

11 – مسند أحمد – (ج 35 / ص 235 – 16725) وسنن الدارمي – (ج 10 / ص 184 – 3373)  وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3562).

12 – سنن أبي داود – (ج 4 / ص 263 – 1252)  وسنن الترمذي – (ج 10 / ص 156 – 2838) وسنن ابن ماجه – (ج 11 / ص 222 – 3770)  ومسند أحمد – (ج 14 / ص 46 – 6508)  وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم : 8122

13 – صحيح البخاري – (ج 15 / ص 267 – 4556) وصحيح مسلم – (ج 4 / ص 219 – 1329).

14 – سنن الترمذي – (ج 10 / ص 153 – 2835)  وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم : 6469 .

 15    بتصرف من  http://saaid.net/Quran/18.htm