استعمال العصا في حلقات التحفيظ

صفحة جديدة 1

(استعمال العصا في حلقات التحفيظ)

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

في هذا الدرس سنتكلم عن مسألة من المسائل التي تهم مدرس القرآن الكريم في حلقات التحفيظ، وهي مسألة استعمال العصا كوسيلة للتأديب، فنقول وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله:

أولاً: الأطفال دون العاشرة:

فهؤلاء لا يضربون إذا قصروا في الحفظ أو في أي شيء كان، بل يعلمون برفق، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مروا صبيانكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)1

فهذا الحديث يبين أن الضرب يبدأ من سن العاشرة، ويكون على ماذا؟ على التقصير في الصلاة، وهي عمود الدين، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، ومع هذا فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن بضرب الصبي على التقصير فيها قبل العاشرة، فالأولى في باقي الأمور التي لا تساوي الصلاة أهميةً ومنزلة ألا نضرب عليها الطفل.

وفي هذا الحديث ملحظ نبوي تربوي رائع في تقرير سن الضرب، وذلك أن الطفل في مرحلة النمو الجسدي والعقلي فإذا تعرض للضرب الكثير قد يؤذي أحد أعضائه، وأحياناً قد يؤدي ذلك إلى إيذاء فكري ونفسي.

لكن يمكن في هذا السن أن يخوف الأطفال بالعصا تخويفاً فقط، لأن كثيراً من الأطفال تردعهم رؤية العصا، فبمجرد إظهارها لهم يخافون، والبخاري قد روى في الأدب المفرد في (باب تعليق السوط في البيت) عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتعليق السوط في البيت”2.

ثم يلي ذلك شد الأذن، وهي عقوبة جسدية خفيفة للطفل، عندما يقع في خطأ ويكرره، ومما يؤيد هذا ما جاء عن عبد الله بن يسار المازني -رضي الله عنه- قال: “بعثتني أمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطفٍ من عنب، فأكلت منه قبل أن أبلغه إياه، فلما جئت أخذ بأذني، وقال: (يا غدر)3.

ثانياً: الأطفال فوق العاشرة:

الأصل في حلقات التحفيظ ومدارسها كمحاضن تربوية ودعوية أن تسودها أساليب الترغيب والمحبة والرفق والدعوة بالحسنى كما هو هدي  النبي -صلى الله عليه وسلم-.  

لكن لا بأس أن يستخدم الضرب كوسيلة تأديبية، لأن”العقاب بالضرب موجود منذ القدم في تأديب الأطفال في البيوت وفى المدارس، وقد رخص الإسلام في ضرب الزوجة الناشز إذا لم تفلح الموعظة والهجر، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) غير أنه ينبغي ألا يكون الضرب مبرحاً، وأن يستعمل عند من لا يصلحه إلا ذلك.

دخل ولد لعمر بن الخطاب عليه، وقد رجَّل شعره ولبس ثياباً حسنة، فضربه بالدرة حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربته؟ فقال: أعجبته نفسه فأحببت أن أصغرها إليه”4. وثبت أن أمراء المؤمنين أذنوا لمؤدبي أولادهم أن يضربوهم عند اللزوم، وينبغي أن يكون الضرب من أجل التأديب، وليس لدافع شخصي. يقول ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة 974 هـ: “إن ضرب التلميذ يكون بعد إذن ولي أمره، وأن يظن أنه يفيد، وألا يكون مبرحاً، فإذا ظن أنه لا يفيد إلا الضرب الشديد الإيذاء فلا يجوز بالإجماع، لأن العقوبة شرعت لظن الإصلاح، فإذا جاء بها ضرر انتفت”5.

وقال ابن قدامة في الشرح الكبير: “وكذلك المعلم إذا ضرب الصبي للتأديب) قال الأثرم سئل أحمد عن ضرب المعلم الصبيان، قال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإذا كان صغيراً لا يعقل فلا يضربه”6.

وجاء في قواعد الأحكام: “ضرب الصبيان على ترك الصلاة والصيام وغير ذلك من المصالح”7.

فيتبين مما سبق أنه يجوز ضرب الأطفال للتأديب لكن بضوابط منها:

– ألا يلجأ إليه المربي إلا عند الضرورة القصوى، إذا لم ينفع الرفق والوعظ وغيرها من الأساليب في تقويم الخطأ فإن المربي -أو الأبوين- يلجؤون إلى استعمال العصا في حالة اليأس من نفع أي أسلوب آخر، وبدون أي قهر أو سخرية، حتى لا يؤدي ذلك عند الطفل إلى الخوف والحقد والقسوة. قال ابن خلدون: “من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة وصارت له خلقاًَ وعادة وفسدت معاني الأنانية التي له”8.

أي يمكن القول أن الضرب للتأديب كالملح للطعام، فكما أن الملح يوضع بشكل قليل فيغير من طعم الطعام ويحسنه، فكذلك الضرب القليل المفيد المثمر هو المطلوب في العملية التربوية؛ لأنّ الهدف هو أن الضرب ضرورة تربوية، وليست انتقامية أو تفريغ شحنة غضب الوالدين أو المربين، ولا ننسى أن كثرة الضرب واستخدامه تقلل من هيبته وتفقده مفعولة، بالإضافة لما يولده من آثار سلبية في النمو النفسي والفكري للطفل. هذا هو الفهم الإسلامي الصحيح لقضية الضرب، بأنه التأديب المصحوب بعاطفة المؤدب المربي، وهو الزجر، وليس بمعنى الإيلام والإهانة.

– أن يكون ضرباً خفيفاً غير مبرح: ضرباً بسيطاً لا يسبب كسراً ولا يُغير لوناً ولا يجرح جسماً، ولا يسيل دماً. فقد كان عمر -رضي الله عنه- يقول للضارب: “لا ترفع إبطك” أي لا تضرب بقوة.

– أن يجتنب الضرب على الوجه والأماكن الحساسة:

لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا تضرب الوجه ولا تقبح..)9 ويدخل في هذا النهي عن ضرب الأماكن الحساسة كالرأس والقلب والبطن والصدر والثديين والفرج، لأن ذلك قد يؤدي إلى الهلاك.

– أن تكون وسيلة الضرب معقولة:

فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الضرب يجب أن يكون بشيء خفيف، أو بمنديل، لا غير، وقيل يجوز استعمال السوط أو العصا بشرط أن يكون الضرب خفيفاً، أي يلوح بالعصا أكثر من أن يضرب بها.

– أن لا يزيد على عشرة أسواط:

ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الضرب ينبغي ألا يزيد على عشرة أسواط، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله)10 وقيل ثلاثاً فقط. قال في التاج والإكليل: “ونقل ابن عرفة في التأديب أنه يكون بالوعيد والتقريع لا بالشتم، فإن لم يفد القول انتقل إلى الضرب بالسوط من واحد إلى ثلاثة ضرب إيلام فقط دون تأثير في العضو. قال أشهب: إن زاد المؤدب على ثلاثة أسواط اقتص منه!!”11. وهذا غريب جداً لأن النص النبوي السابق يخالف ذلك تماماً، والأصح ما جاء في الحديث، ولا عبرة بقول المخالف، وجاء في مقدمة ابن خلدون: “قال أبو محمد بن أبي يزيد في كتابه عن المعلمين والمتعلمين: لا ينبغي لمؤدبي الصبيان أن يزيدوا في ضربهم -إذا احتاجوا إليه- على ثلاثة أسواط شيئاً”12. وهذا كسابقه من البطلان، إلا أن يقصد بلا ينبغي، أي من باب الرحمة والرفقة وليس من باب عدم الجواز أو وجوب الاقتصاص على الزيادة فوق ثلاث!.

-ألا يجمع المربي بين الضرب والسب والشتم.

على المربي والمؤدب ألا يجمع بين الضرب والسب والشتم أو تقبيح الطفل،كأن يقول: يا كلب يا قرد، يا كذا يا كذا، فإن هذا غير حسن.

الآثار المترتبة عن الإفراط في استخدام العصا:

ضرب الطفل يجعله يخاف من المدرسة و يفقد ثقته بمعلمه وبنفسه، ويصبح يراه  غير قدوة، لاستعماله العصا، ويتولد عنده سلوك غير مرضي في تعامله مع الآخرين، فصار عدوانياً، وربما أصيب ببعض المشكلات النفسية، التي قد تظهر كتأخر في النطق وضعف في اللغة، وربما فقد الطفل بسبب الضرب شخصيته، وعاش في خوف وقلق وارتباك، إضافة إلى أن استعمال العصا دليل على ضعف في شخصية المربي وعدم قدرته على الأداء، وإذا أعتاد الطفل على الضرب صار الضرب عديم الأثر، هذا مع ما قد يسببه الضرب للطالب من عاهة مستديمة. 

وختاماً: لا ننسى أن:

– الثواب أبقى وأقوى أثراً من العقاب في التربية، والمدح أبلغ أثراً من الذم، والرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الرفق ما وضع في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)13.

– أنه يباح ضرب الأطفال –بالشروط السابقة- على الصلاة للحديث: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر).

– إن تطبيق مبدأ الثواب والعقاب في مجال التربية حين يتم وفق معايير تربوية، وأسس واعية، وظروف مناسبة، ومواقف نفسية واجتماعية صحيحة فإنه يؤدي إلى نتائج طيبة وناجحة، وإهمال ذلك يؤدي إلى عدم الأدب، وقديماً قيل: “من أمن العقوبة أساء الأدب”. 

هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 – أخرجه أبو داود (ج 2 / ص 88 – 418)  وصححه الألباني في إرواء الغليل(ج 1 / ص 266)

2 – أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ج 4 / ص 358 – 1270) وحسنه الألباني في صحيح الجامع

حديث رقم: 4022. بلفظ: (علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم).

3 – مسند الشاميين للطبراني – (ج 5 / ص 50) عن النعمان بن بشير ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث معه بقطفين: واحد له، والآخر لأمه عمرة، فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرة فقال: (أرسلت لك مع  النعمان بقطف من عنب) فقالت: لا، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بلدته، فقال: (يا غدر).

4 – تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 96

5 – فتاوى الأزهر – (ج 10 / ص 170)

6 – الشرح الكبير لابن قدامة – (ج 6 / ص 130)

7 – قواعد الأحكام في مصالح الأنام – (ج 1 / ص 225)

8 – مقدمة ابن خلدون (ج 1 / ص 347)

9 – أخرجه أبو داود (ج 6 / ص 45 – 1830) وأحمد (ج 40 / ص 481 – 1916) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 2 / ص 195-  1929)  

10 – أخرجه البخاري (ج 21 / ص 132 – 6342) ومسلم (ج 9 / ص 87 – 3222)

11 – التاج والإكليل لمختصر خليل  – (ج 1 / ص 340)

12 – مقدمة ابن خلدون”ص 399″ :

13 – أخرجه مسلم – (ج 12 / ص 487 – 4698)