كيف ننقش القرآن على صدور صغارنا!

كيف ننقش القرآن على صدور صغارنا

كيف ننقش القرآن على صدور صغارنا!

الحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بكماله وجلاله، حمداً يُوازي نعمته علينا بالإسلام العظيم، ويكافئُ مَنِّهِ علينا بالقرآن الكريم, والصلاة والسلام على خير المرسلين، النبي الأُمِّي، الصادق الأمين، الذي تلقى القرآن من لَدُن حكيم عليم، فبلَّغَهُ وتحمل من أجل ذلك ما تحمَّل حتى أوصله إلينا، فصِرنا -بفضل الله- مسلمين… أما بعد:

فإن طفلاً في جوفه القرآن أو شيءٌ من القرآن، أو طفل يُحِبُّ القرآن لهو نورٌ في الأرض يتحرك وسط الظلام الأخلاقي الذي يسود أيامنا الحالية، وصِرنا نخشى اتساع رقعته في الأعوام القادمة, وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل –رضي الله عنه- قد اعتبر زمانه زمن فِتنٍ؛ لأن الريح كشفت جزءاً من كعب امرأة رغماً عنها، ورآه الشافعي عن غير قَصد, فماذا نقول عن زماننا؟!! بل كيف نتصور حال الزمان الذي سيعيشه أبناؤنا؟!

وإذا كان المَخرج من هذه الفِتن هو التمسُّك بكتاب الله، وسُنَّة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فما أحرانا بأن نحبِّب القرآن إلى أبنائنا؛ لعل القرآن يشفع لنا ولهم يوم القيامة، وعساه أن ينير لهم أيامهم، ولعل الله ينير بهم ما قد يحل من ظلام حولهم.

وفي السطور القصيرة التالية محاولة لإعانة الوالدين -أو مَن يقوم مقامهما– على أن يربوا أطفالاً يُحبُّون القرآن الكريم، فنرجو الله تعالى أن ينفع بها، وله الحمد والمِنَّة.

إن الهدف المرجو من هذه الكلمات هو مساعدة الطفل على حب القرآن الكريم؛ من أجل أن يسهُل عليه حِفظه وفهمه ومن ثمَّ تطبيقه, ومن أجل ذلك علينا أن نبدأ من البداية، وهي اختيار الزوج أو الزوجة الصالحة، فقبل أن ننثر البذور علينا أن نختار الأرض الصالحة للزراعة، ثم المناخ المناسب لنمو هذه البذور؛ حتى نضمن -بإذن الله- محصولاً سليماً من الآفات، يسُرُّ القلب والعين, وبعد ذلك تأتي المراحل التالية، والتي نذكر منها هنا ما يلي:

أولاً: مرحلة الأجِنَّة!!:

في هذه المرحلة يكون الجنين في مرحلة تكوين من طَور إلى طَور, ولك أن تتخيل الجنين وهو ينمو ويتكون على صوت القرآن المرتَّل! فلقد أثبتت البحوث والدراسات المتخصصة في علم الأجنة أن الجنين يتأثر بما يحيط بأمه، ويتأثر بحالتها النفسية، حتى أنه “يتذوق الطعام التي تأكله وهي تحمله، ويُقبل عليه أكثر مِمَّا يُقبل على غيره من الأطعمة! كما أثبتت الأبحاث أن هناك ما يسمَّى “بذكاء الجنين, أما أحدث هذه الأبحاث فقد أثبتت أن العوامل الوراثية ليست فقط هي المسئولة عن تحديد الطباع المزاجية للطفل، ولكن الأهم هي البيئة التي توفرها الأم لجنينها وهو ما زال في رحمها، فبالإضافة إلى الغذاء المتوازن الذي يحتوي على كل العناصر الغذائية والفيتامينات التي تحتاجها الأم وجنينها، وحرص الأم على مزاولة المشي وتمرينات ما قبل الولادة، فإن الحامل تحتاج أيضاً إلى العناية بحالتها النفسية، لأن التعرض للكثير من الضغوط يؤدي إلى إفراز هرمونات تمر إلى الجنين من خلال المشيمة، فإذا تعرض الجنين إلى ضغوط نفسية مستمرة، فإنه سيكون في الأغلب طفلاً عصبياً، صعب التهدئة ولا ينام بسهولة, بل وربما يعاني من نشاط مُفرِط، ومن نوبات المغص.

إذن فالحالة النفسية للأم تنعكس -بدون أدنى شك- على الجنين؛ لأنه جزء منها, لذا فإن ما تشعر به الأم من راحة وسكينة بسبب الاستماع إلى القرآن أو تلاوته ينتقل إلى الجنين، مما يجعله أقل حركة في رحمها، وأكثر هدوءاًً، بل ويتأثر بالقرآن الكريم, ليس في هذه المرحلة فقط، وإنما في حياته المستقبلية أيضاً! ويؤكد هذا فضيلة الشيخ الدكتور: محمد راتب النابلسي -الحاصل على الدكتوراه في تربية الأولاد في الإسلام- في قوله: “إن الأم الحامل التي تقرأ القرآن تلد طفلاً متعلقاً بالقرآن” كما أثبتت التجارب الشخصية للأمهات أن الأم الحامل التي تستمع كثيراً إلى آيات القرآن الكريم، أو تتلوه بصوت مسموع يكون طفلها أكثر إقبالاً على سماع القرآن وتلاوته وتعلُّمه فيما بعد، بل إنه يميِّزه من بين الأصوات، وينجذب نحوه كلما سمعه وهو لا يزال رضيعاً! لذا فإن الإكثار من تلاوة القرآن والاستماع إليه في فترة الحمل يزيد من ارتباط الطفل عاطفياً ووجدانياً بالقرآن، ما يزيد من فرصة الإقبال على تعلُّمه وحِفظه فيما بعد.

 

 

ثانياً: مرحلة ما بعد الولادة حتى نهاية العام الأول:

تبدأ هذه المرحلة بخروج الجنين إلى الدنيا حيث أول محيط اجتماعي يحيط به، لذا فإنها تعد الأساس في البناء الجسدي والعقلي والاجتماعي للطفل، ولها تأثيرها الحاسم في تكوين التوازن الانفعالي والنضوج العاطفي، فلا عجب إذن أن يركز المنهج الإسلامي على إبداء عناية خاصة بالطفل في هذهِ المرحلة، فالطفل في أيامه الأولى، وبعد خروجه من محضنه الدافئ الذي اعتاد عليه فترة طويلة يحتاج إلى التغذية الجسمية والنفسية ليعوِّض ما اعتاده وأِلفه وهو في وعاء أمه, لذا نرى المولى سبحانه يوصي الأم بأن ترضع طفلها حولين كاملين، ويجعل هذا حقاً من حقوق الطفل، كما نراه -عز وجل – يكفل للأم في هذه الفترة الطعام والكساء هي ورضيعها،كما جاء في قوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفٌِ} (233) سورة البقرة. ولقد فطن العرب منذ آلاف السنين إلى تأثير فترة الرضاعة على تكوين شخصية وطباع الطفل فكانوا يختارون لأبنائهم المرضعة حسنة الخُلُق، الودودة, كما كانت الصحابيات -رضوان الله عليهن- يُغنِّين لأطفالهن من الذكور أثناء الرضاعة أغاني تُحفِّز على البطولة والرجولة، لترسخ هذه المعاني في أذهانهم منذ نعومة أظفارهم! فما بالنا بالأم التي ترضع وليدها على صوت القرآن المرتل بصوتٍ ندي, ألا يعينه ذلك على حب القرآن الكريم؟!!

إن الأم التي تُرضع طفلها على صوت ندِيٍ يتلو القرآن الكريم، فإن الراحة والسكينة والاطمئنان والحنان الذين يشعر بهم الطفل وهو بين أحضان أمه سيرتبط في عقله اللاواعي بالقرآن الكريم, ومن ثَمَّ يصبح القرآن بالنسبة للطفل- فيما بعد- مصدرا ًللأمن والاطمئنان والسعادة ، ونوعاً آخر من الزاد الذي يشبع قلبه وروحه،كما كانت الرضاعة تشبع بطنه وتُسعد قلبه، فإذا كانت الأم هي التي تتلو القرآن مجوَّداً، فإن ذلك يكون أقرب لوجدان الطفل وأشد تأثيراً فيه، وأهنأ له ولأمه, ولنا أن نتخيل هل سيظل طفل كهذا يصرخ طوال الليل أو يكون نومه مضطرباً وهو محفوف بالملائكة بسبب القرآن الكريم؟!

ثالثاً: في العام الثاني من حياة الطفل:

تلعب القدوة -في هذه المرحلة- دورا ًهاماً ورئيساً في توجيه سلوك الطفل، لذا فإنه إذا شعر بحب والديه للقرآن من خلال تصرفاتهما فإن هذا الشعور سوف ينتقل إليه تلقائياً، ودون جهد منهما، فإذا سمع أباه يتلو القرآن وهو يصلي جماعة مع والدته، أو رأى والديه -أو مَن يقوم مقامهما في تربيته- يتلوان القرآن بعد الصلاة، أو في أثناء انتظار الصلاة، أو اعتاد أن يراهما يجتمعان لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة في جو عائلي هادىء, فإنه سيتولد لديه شعور بالارتياح نحو هذا القرآن, وإذا لاحظ أن والديه يفرحان بظهور شيخ يتلو القرآن وهما يقلِّبان القنوات والمحطات، فيجلسا للاستماع إليه باهتمام وإنصات، فإنه سيتعلم الاهتمام به وعدم تفضيل أشياء أخرى عليه, وإذا رآهما يختاران أفضل الأماكن وأعلاها لوضع المصحف، فلا يضعان فوقه شيء، ولا يضعانه في مكان لا يليق به، بل ويمسكانه باحترام وحُب, فإن ذلك سيتسلل إلى عقله اللاواعي, فيدرك مع مرور الزمن أن هذا المصحف شيءٌ عظيم جليل كريم يجب احترامه، وحُبه وتقديسه, ومن ناحبة أخرى، إذا تضايق الطفل من انشغال والديه عنه بتلاوة القرآن وأقبل عليهما يقاطعهما، فلم يزجرانه أو ينهرانه، بل يأخذه أحدهما في حضنه، ويطلب من الطفل أن يقبِّل المصحف –مثلاً-قائلاً له: ” هذا كتاب الله هل تقبِّله؟!!” فإن الطفل سيشعر بالوِد تجاه هذا الكتاب.

وإذا رأى الأم تستمتع بالإنصات لآيات القرآن الكريم وهي تطهو أو تنظف المنزل، ورأى نفس الشيء يحدث مع والده وهو يقوم بترتيب مكتبته مثلاً, أو رَيّ الحديقة فإن ذلك يجعله يفضِّل أن يستمع إليه هو الآخر حين يكبر وهو يؤدِّي أعمالاً روتينية مشابهة.

رابعاً: منذ العام الثالث حتى نهاية الخامس:

يقول الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي: “من دراستي في التربية علمت أن أخطر سن في تلقي العادات والتقاليد والمبادئ والقيم هو سن الحضانة، ثم سن التعليم الابتدائي, ويستطرد قائلاً:” إن الطفل يستطيع أن يحفظ القرآن في سِنِي حياته الأولى، فإذا كبر فهم معانيه، ولكن بعد أن يصبح لسانه مستقيماً بالقرآن، فيشب وقد تعلم الكثير من الآداب”.

كما يؤكد الدكتور يحيى الغوثاني -المتخصص في الدراسات القرآنية- أن الطفل إذا حفظ القرآن منذ صغره اختلط القرآن بلحمه ودمه, لذا ففي هذه السن-غالباً – يمكننا أن نبدأ بأنفسنا تعليمه تلاوة القرآن تلاوة صحيحة، فإن لم يتيسر ذلك، فلا بأس من اختيار معلمة أو معلم، يكون طيب المعشر، لين لجانب، حازم في رفق، ذو خُلُقٍ قويم، واسع الأُفُق، وأن يكون مُحِبَّاً لمهنته؛ كي ينتقل هذا الحب إلى تلاميذه ، مع ملاحظة أننا لا ينبغي أبداً أن نُجبر الطفل على حفظ القرآن أو نضربه إذا لم يحفظ، بل يجب أن تكون جلسة الاستماع إلى القرآن أو حفظه من أجمل الجلسات وأحبها إلى قلبه، وذلك من خلال تشجيعه بشتى الصور المحببة إلى قلبه، من مكافآت مادية ومعنوية، وغير ذلك, فإذا كان مَن يحفِّظه يتَّبع أسلوباً عنيفاً أو غير محبَّب فلنستبدله على الفور إن نهيناه ولم ينتهَِ.

وهناك ملاحظة مهمة، وهي مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال, فإن كان طفلك غير متقبل للحفظ في هذا السن، فعليك أن تُمهله حتى يصير مهيَّأً لذلك، مع الاستمرار في إسماعه القرآن مرتلاً, أما إذا كان لدى طفلك القُدرة والاستعداد قبل هذا العمر، فيجب أن تنتهز هذه الفرصة, وتشكر الله على هذه النِّعمة، فتشجعه وتعينه على حفظ القرآن الكريم، كما حدث مع “زهراء” الطفلة السعودية التي حفظت سوراً من القرآن الكريم مع إتقان كامل لمخارج الحروف وهي تبلغ من العمر عاماً ونصف العام!

وكذلك الطفل الإيراني “محمد حسين” الذي كانت والدته تصطحبه معها في جلسات لحفظ القرآن الكريم، وهو لم يتجاوز السنتين, وكانت وقتها تحفظ الجزء الثلاثين من القرآن الكريم، فلما عادت في إحدى الأيام للبيت، كان محمد يلعب ويردد شيئاً, أراد والده أن يسمع ما الذي يقوله بهذا الاهتمام، فاستغرب كثيراً عندما علم أنه يردد الجزء الثلاثين من القرآن الكريم، فذهب إلى زوجته متسائلاً منذ متى وأنتِ تحفِّظينه الجزء الثلاثين من القرآن الكريم؟ فاستغربت الزوجة قائلة: أنا لم أفعل على الإطلاق، فذهب الوالد إليه مرة أخرى وحاول أن يمتحنه بالجزء الثلاثين فوجد أنه يحفظه بشكل جيد, حينها علم أن لولده ذو السنتين قابليه لحفظ القرآن, ففرح كثيراً وبدأ معه مشوار الحفظ، فلما بلغ محمد سن الخامسة كان قد أكمل حفظ القرآن الكريم!! وبعد ذلك حاز محمد على شهادة دكتوراه في العلوم القرآنية من جامعة لندن وكذلك حاز على شهادة الدكتوراه الافتخارية في علوم القران من جامعة الحجاز!!

وكم هي مفيدة ومؤثرة كلمات والده الذي قال:”إن محمد حسين ليس إلا طفلاً عادياً قد يفوق أقرانه بالقليل من الفطنة، لكن هناك الكثير من الأطفال الأذكياء الذين لم يفكر أحد باستغلال ذكائهم، فالذي ساعد ابني هو أنني في البيت مع زوجتي وأطفالي نردد القرآن في الصباح والمساء, وان سكتنا نَسمعه من المسجل أو التلفزيون.

وينصح والده الآباء قائلاً: “لكي يكون لديك طفل مثله عليك أنت أن تغير ما في نفسك كي يسير طفلك في مَسارك”! ويختم والده كلامه قائلاً:””في النهاية أود أن أقول أنه كلما ردَّدَ ابنك أغنية، فأعلم أنه قادر على أن يحفظ ويردد القرآن كما حفظ تلك الأغنية”.

وفي هذه المرحلة -ما بين العام الثالث والخامس- ينبغي أن نعلِّم الطفل الأدب مع كتاب الله، فلا يقطع أوراقه، ولا يضعه على الأرض، ولا يضع فوقه شيئاً، ولا يدخل به دورة المياه ، ولا يَخُط به بقلم, وأن يستمع إليه بانتباه وإنصات حين يُتلى.

ومن معالم هذه المرحلة الولع بالاستماع إلى القصص، لذا يمكننا أن ننتقي للطفل من قصص القرآن ما يناسب فهمه وإدراكه، مثل: قصة أصحاب الفيل، وقصة ميلاد ونشأة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقصة موسى عليه السلام مع الخِضر، وقصته مع قارون، وقصة سليمان -عليه السلام- مع بلقيس والهدهد، وقصة أصحاب الكهف, على أن تبدأ بقولك له: “هيا يا حبيبي لنستمتع معاً بقصة من قصص القرآن”! ومع تكرار هذه العبارة سيرتبط حبه للقصص بحب القرآن، وسترتبط المتعة الروحية التي يشعر بها من خلال قربه من الأب أو الأم، وما يسمعه من أحداث مشوِّقة بالقرآن الكريم، فيعي مع مرور الزمن أن القرآن مصدراً للسعادة والمتعة الروحية, ومن المفيد أن نختم كل قصة بالعِبَر المستفادة منه1.

هذه أربع مراحل رئيسية في حياة الأبناء ينبغي الاهتمام بها لتسهل ما بعدها من المراحل, فإن من شب على شيء شاب عليه, وليس المقصود أن هذه المراحل هي جميعها التي يمكن فيها نقش القرآن في صدور الصغار, وأخيراً نقول: إن حب القرآن هو شيءٌ عظيم، لا يُرْزَقه إلا كل سعيد، وإننا لنرجو أن نكون وأبناؤنا من أولئك السعداء، وأن يكون ذلك الحب شفيعاً لنا ولهم يوم القيامة.. آمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.


 


1 الموضوع مستفاد بتصرف يسير من كتيب بعنوان: (كيف نُعين أطفالنا على حب القرآن الكريم؟ لـ(د.أماني زكريا الرمادي).