دور تحفيظ القرآن الكريم..تطلعات وآمال
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين… أما بعد:
فقبل ردح من الزمن مضى كان الهجر والجفاء لكتاب الله الكريم من قِبَل كثير من المسلمين والمسلمات هجراً ظاهراً ملموساً في كثير من البلدان, إذ كان الواحد منهم يبيت الليالي الطوال, بل الشهر والشهرين إن لم تكن أشهر الحول كلها، وهو لا يمس ولا يُفتح المصحف إلا لحاجة عارضة -كدراسة رسمية أو مسابقة رمضانية وغير ذلك- دون التلاوة التعبدية ودون الحفظ والفهم والامتثال لأمره, حتى إذا ما حل الشهر الكريم –شهر رمضان- كان لبعض الناس معه وقفات وجلسات متقطعة، ثم لا يلبث أن يرتحل عنه مع ارتحال ذلك الموسم الكريم.
وفي السنين الماضية لم نكن نسمع عن حفاظ أو حافظات لكتاب الله في صفوف أبنائنا وبناتنا, بل كان الكثير قابع على ألوان إعلامية هابطة رديئة، وهمم مصروفة لحفظ كل سافل ورديء من شعر وغناء، بينما الصدور تكاد تكون خالية من آيات الذكر الحكيم، حتى آيات الكفاية في خاتمة البقرة، وآيات العصمة من فتنة المسيح الدجال من أوائل سورة الكهف –مثلاً-لم يعرفها الكثير فضلاً عن حفظها أو فهمها أو تدبرها إلا من رحم الله.
وبالنسبة للنساء خاصة فإنك تجد أن من كانت على نور من ربها، وعلى صلة بكتابه العزيز، فتجدها حين تريد الجلوس بين يدي كتاب الله تعالى لتتلو أو تحفظ منه شيئاً، تجدها تتوارى عن الأعين، ليس بُعداً عن السمعة والرياء، إنما بعداً عن التندر بها، وبالطريق الذي هديت إليه؛ إذ إن الاتصال بكتاب الله إشارة بأن هذه خطوة في طريق العودة إلى صراطه المستقيم، وقد كانت الندرة -إذ ذاك- في أهل الخير والمعينين عليه, والله المستعان.
وأما اليوم فهذه جموع من أبناء وبنات ونساء المؤمنين يُفْيقون ويَعُودون إلى كتاب ربهم عَوْداً حميداً جميلاً صادقاً، متوجاً بتاج العزة والثقة به وبخبره، كلٌّ منهم يرجو وعده ويخاف وعيده، ويقف عند نهيه، وتستجيب لأمره, كل واحد على قدره وطاقته.
وها هي الأموال الزكية الطاهرة، والأيادي العاملة الصادقة، تشيد البناء وترص اللبنات, وتدير حلقات القرآن في كل مكان حتى بلغت مدارس تحفيظ القرآن المئات، يرتادها عشرات الألوف من البنين والبنات فلله الحمد والمنة.
وها هي حافلات دور القرآن تشق شوارع المدن لتعلن على الملأ أن الأمة عادت لربها, ونهضت, والتفتت إلى مصدر عزها ونورها، ومصدر مجدها وسؤددها، ولتعلن أن الأمة وإن طالت بها رقدة فإن اليقظة نهاية كل ضياع.
وها هو القرآن حياً كاملاً ينبض في صدور كثير من فتيان وفتيات الإسلام، ولكبيرات السن وللأمهات بل وللجدات، نصيب من العودة الموفقة والالتفافة الحميمة على مائدة وحي السماء، والاسترواح في ظلاله ورياضه, وبعد أن كان الكثير منهن لا تُحسن قراءة أمِّ الكتاب، ولا تدرك معنى ونفع وِرْد الصباح والمساء، وكل ما تحمله دعوات وتعويذات ورثتها عن الآباء والأجداد، ولا يخلو بعضها من مآخذ شرعية، ولكنها اليوم وعلى مقاعد الدور أصبحت ترتل الآيات وتحفظ منها وتتدبرها, ومنهن من حفظن الزهراوين، وحفظن أذكار اليوم والليلة، بل ومنهن من حفظت الأربعين النووية فلله الحمد والمنة.
وبالجملة فإنّ هذا الكتاب الكريم شغل وقت فئات من النساء…نعم شغلهن بتلاوته وحفظه، وتدبر معانيه وتفهمها بالذهاب إلى دوره والإياب منها، وارتقى بهن عن كثير من سفاسف الأمور وتوافهها، وعلى عتبة الدور عقدن وأقمن روابط أخوية ودية إيمانية، نتج عنها صور وألوان من الطاعات، والقربات، ما كان من طريق إليها لولا هذه البيوت المضيئة والحمد والفضل لله أولاً وآخراً.
ولا يسع المؤمن المحب لله وكتابه وهو يرى هذا كله، إلا أن يستبشر ويُبشر به، لا سيما ونحن في زمن يتسابق ويتسارع فيه أئمة الباطل، ودعاة الرذيلة إلى تغريب نساء الأمة وصدهن عن سبيل ربهن.. فاللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض ، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد.
وحديثنا عن هذه النقلة الطيبة في تعليم كتاب الله تعالى ليس معناها أننا قد وصلنا إلى المطلوب كما ينبغي, بل نحن لا نزال بحاجة كبيرة لتطوير هذه المرحلة حتى يحدث التغيير الحقيقي في هذه الأرض, ولكي تعلو هذه الدور شامخة وتكون صرحاً عظيماً نافعاً ذات قوة وتمكين أمام التحديات المعاصرة فإن لهذه الدور متطلبات ينبغي الاهتمام بها وعدم التساهل في ذلك, وأولى المتطلبات التي تحتاجه هذه المراكز والدور العلمية النسائية منها والرجالية المورد المالي؛ فالمادة كما يقال: عصب الحياة، وعنصر بقائها وتجديدها وتطويرها، وكم هي الدعوات الباطلة، والمؤسسات التدميرية التي ما كان لها أن تقوم وتعيش وتؤثر في غيرها لولا وفرة المال وسيولته الداعمة، وإن كان الحق ممثلاً بمنهجه وأهله ومؤسساته لا يحتاج إلى كثير مال كالذي تحتاجه تلك المؤسسات، إلا أنه لن يكتب له التقدم والتسيُّد ما لم يولَ هذا الأمر حقه من الاهتمام والبحث والسعي في تحصيله وتنميته، ولفت النظر دوماً لضرورته في عملية الدعوة والإصلاح والتأثير والتمكين, فكم هي المشاريع الإصلاحية والتربوية التي تتأخر وتتعثر وتضعف بل وبعضها يموت مع ميلاده لفقد المدد المالي.
والمطلب الثاني هو توفير العنصر البشري المتأهل الفعال وليس كل من هب ودب يصلح لهذا الأمر, فينبغي الاعتناء بهذه المسألة وحسن الاختيار, وإن كانت بعض الدور لا تخلو من نخب فعالة تبذل وتعطي، على بصيرة من أمرها، إلا أن الحاجة أكبر.
ولتحقيق قدر من هذا المطلب يُقترح أمور منها: الاعتناء والاهتمام بالطلاب المتميزين والطالبات المتميزات تديناً وخلقاً وأدوات القدرة على التلقي والمهارة, والحث على الاستمرار ومواصلة الطلب، والمساعدة في التغلب على ما قد يجده الطالب في طريقه من معوقات أسرية وغير ذلك، ثم تنمية مهاراتهم وتطوير قدراتهم، ووضع البرامج العلمية والتثقيفية والتربوية لتهيئتهم تهيئة مستقبلية ليتأهلون للقيام بمهام إدارية وتعليمية في دور القرآن, وإقامة مركز أو معهد تدريبي ترعاه مؤسسة تعليمية أو خيرية شكلاً ومضموناً يستقطب له المؤهلات من طلاب وطالبات العلم, والمتخصصين في التربية والدعوة والاجتماع؛ ليقوموا ويشرفوا عليه ويعملوا فيه؛ والغاية منه هي مساعدة وتقوية الفئات الضعيفة التي تعمل في الهيئات الإدارية والتعليمية داخل الدور.
نسأل الله للجميع التوفيق والثبات، وأن يبارك لكل من يساهم في بناء المجتمع وتنشئته التنشئة الإيمانية الحقة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين1.