آداب معلم القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد الصادق الأمين، وبعد:
فإن الله –تعالى – لما أنزل القرآن على رسوله – صلى الله عليه وسلم – ليقوم به في العالمين، أرشد فيه – صلى الله عليه وسلم – إلى آداب كثيرة، يجب أن يتحلى بها كل من يقرأ القرآن، وهذا بعض ما يجب أن يتأدب به حامل القرآن، ومعلمه، إذ أن الأدب هو الثمرة، وهو حلقة الوصل بين المعلم والمتعلم، فمتى كانت السلسلة بينهما صحيحة سليمة كان النفوذ خلالها سهلاً ويسيراً ومفيداً وصحيحاً.
آداب معلم القرآن:
ينبغي على من علمه الله –تعالى – القرآن، وفضله على غيره ممن لم يحمِّله كتابه، وأحب أن يكون من أهل القرآن، وأهل الله وخاصته، وممن وعده الله من فضله العظيم، وممن قال الله – تعالى – فيه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ)1.وقد قيل في تفسيرها: يعملون به حق عمله، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : (الذي يقرأ القرآن وهو ما هر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران)2، قال بشر بن الحارث: (سمعت عيسى بن يونس يقول: إذا ختم العبد قبَّل الملك بين عينيه)3، فينبغي له أن يجعل القرآن ربيعاً لقلبه، يعمر به ما خرب من قلبه، يتأدب بآداب القرآن، ويتخلق بأخلاق شريفة يتميز بها عن سائر الناس ممن لا يقرأ القرآن، فأول ما ينبغي له:
أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية، وذلك باستعمال الورع في مطعمه، ومشربه، وملبسه، فيكون بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، حافظاً لسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا رأى السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه ليأمن شره وسوء عاقبته، قليل الضحك فيما يضحك منه الناس؛ لسوء عاقبة الضحك، إن سُرَّ بشيءٍ مما يوافق الحق تبسم، يكره المزاح خوفاً من اللعب، فإن مزح قال حقاً، باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه فكيف بما ليس فيه، يحذر من نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه، ولا يغتاب أحداً، ولا يحقر أحداً، ولا يشمت بمصيبة، ولا يبغي على أحد ولا يحسده، ولا يسيء الظن بأحد بمن يستحق، يحسد بعلم 4، ويظن بعلم، ويتكلم بما في الإنسان من عيب بعلم، ويسكت عن حقيقة ما فيه بعلم، قد جعل القرآن والسنة والفقه دليله إلى كل خلق حسن جميل، حافظاً لجميع جوارحه عما نهي عنه، إن مشى مشى بعلم، وإن قعد قعد بعلم، يجتهد ليسلم الناس من لسانه ويده، لا يجهل، وإن جُهل عليه حلم، لا يظلم، وإن ظُلم عفا، لا يبغي على أحد، وإن بُغِيَ عليه صبر، يكظم غيظه ليرضي ربه ويغيظ عدوه، متواضع في نفسه، إذا قيل له الحق قَبِله من صغير وكبير، يطلب الرفعة من الله لا من المخلوقين، ماقت للكبر خائفاً على نفسه منه، لا يتأكَّل بالقرآن، ولا يحب أن تقضى له به الحوائج، ولا يسعى به إلى أبناء الملوك، ولا يجالس به الأغنياء ليكرموه، إن كسب الناس من الدنيا الكثير بلا فقه ولا بصيرة، كسب هو القليل بفقه وعلم، إن لبس الناس الليِّن الفاخر لبس هو من الحلال ما يستر عورته، إن وُسِّع عليه وَسَّع، وإن أُمسك عنه أَمسَك، يقنع بالقليل فيكفيه، ويحذر على نفسه من الدنيا ما يطغيه، يتبع واجبات القرآن والسنة، يأكل الطعام بعلم، يلبس بعلم، وينام بعلم، ويجامع بعلم، ويصحب الإخوان بعلم، ويزورهم بعلم، ويستأذن عليهم بعلم، ويسلِّم عليهم بعلم، يجاور جاره بعلم، يلزم نفسه بر والديه، فيخفض لهما جناحه، ويخفض لصوتهما صوته، ويبذل لهما ماله، وينظر لهما بعين الوقار والرحمة، يدعو لهما بالبقاء، ويشكر لهما عند الكبر، ولا يضجر بهما ولا يحرمهما، إن استعانا به على طاعة الله أعانهما، وإن استعانا به على معصيته لم يعنهما، ورفق بهما في معصيته إياهما، يحسن الأدب ليرجعا عن قبيح ما أرادا مما لا يحسن بهما فعله، يصل الرحم، ويكره القطيعة، من قطعه لم يقطعه، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه، يصحب المؤمنين بعلم، ويجالسهم بعلم، من صحبه نفعه، حسن المجالسة لمن جالس، إن علم غيره رفق به، لا يعنف من أخطأ ولا يخجله، رفيق في أموره، صبور على تعليم الخير، يأنس به المتعلم، ويفرح به المُجالس، مجالسته تفيد خيراً، مؤدب لمن جالسه بأدب القرآن والسنة، أن أصيب بمصيبة فالقرآن والسنة له مؤدبان، يحزن بعلم، ويبكي بعلم، ويصبر بعلم، ويتطهر بعلم، ويصلي بعلم، ويزكي بعلم، وينفق بعلم، ويتمسك في الأمور بعلم، وينقبض عنهما بعلم، قد أدبه القرآن والسنة.
يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه، لا يرضى من نفسه أن يؤدي ما فرض الله عليه بجهل، قد جعل العلم والفقه دليله إلى كل خير، إذا درس القرآن فبخصوص فهم وعقل، همته إيقاع الفهم لما ألزمه الله من اتباع ما أمر، والانتهاء عما نهى، ليس همه متى أختم السورة، همته متى استغني بالله عن غيره، متى أكون من المتوكلين، متى أكون من المتقين، متى أكون من المحسنين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصابرين، متى أكون من الصادقين، متى أكون من الخائفين، متى أكون من الراجعين، متى أزهد في الدنيا، متى أرغب في الآخرة، متى أتوب من الذنوب، متى أعرف قدر النعم المتواترة، متى أشكره عليها، متى أعقل عن الله الخطاب، متى أفقه ما أتلو، متى أغلب نفسي على ما تهوى، متى أجاهد في الله حق جهاده، متى أحفظ لساني، متى أغض طرفي، متى أحفظ فرجي، متى أستحيي من الله حق الحياء، متى أشتغل بعيبي عن عيوب الناس، متى أصلح ما فسد من أمري، متى أحاسب نفسي، متى أتزود ليوم معادي، متى أكون عند الله راضيا، متى أكون بالله راضيا، متى أكون بالله واثقاً، متى أكون بزجر القرآن متعظا، متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلاً، متى أُحب ما أَحب، متى أُبغض ما أَبغض، متى أنصح لله، متى أخلص لله عملي، متى أقصر أملي، متى أتأهب ليوم موتي وقد غُيِّب عني أجلي، متى أعمر قبري، متى أفكر في الموقف وشدته، متى أفكر في خلوتي مع ربي، متى أفكر في المنقلب، متى أحذر مما حذرني منه ربي، من نار حرها شديد، وقعرها بعيد5، وغمها طويل، لا يموت أهلها فيستريحون، ولا تقال عثرتهم، ولا ترحم عبرتهم، يحذر أن يغفل عن الله ما افترض الله عليه، وما عهده إليه أن يُضيعَه، ويحفظ ما استرعاه من حدوده، إذا تلا القرآن استعرضه فكان كالمرآة يرى ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذره، وما خُوفه به من عقابه خافه، وما رغبه مولاه فيه رغب فيه ورجاه.
أخلاق معلم القرآن أثناء تعليمه:
ينبغي لمن علمه الله كتابه؛ أن يجلس في المسجد يقرئ القرآن لله – عز وجل – ويعلمه للناس، أن يغتنم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : (خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه)6، فينبغي له أن يستخدم من الأخلاق الشريفة ما يدل على فضله وشرفه وصدقه، وأن يتواضع في نفسه إذا جلس في مجلسه، ولا يتعاظم في نفسه، وأن يستقبل القبلة في مجلسه، قال مكحول: (أفضل المجالس ما استقبل به القبلة)7، ويتواضع لمن يلقنه القرآن، ويقبل عليه إقبالاً جميل8.
وينبغي له أن يستعمل مع كل إنسان يعلمه ما يصلح لمثله، إذا كان يتعلم عليه الصغير والكبير، والحدث، والغني والفقير، فينبغي له أن يوفي كل ذي حق حقه، ويعتقد الإنصاف إن كان يريد الله بتلقينه القرآن، فلا ينبغي له أن يقرب الغني، ويبعد الفقير، ولا ينبغي له أن يرفق بالغني ويخرق بالفقير، فإن فعل هذا فقد جار في فعله، فحكمه أن يعدل بينهما، ثم ينبغي له أن يحذر على نفسه التواضع للغني، والتكبر على الفقير، بل يكون متواضعاً للفقير، مقرباً لمجلسه متعطفاً عليه، يتحبب إلى الله بذلك.
جاء في سبب نزول قوله تعالى: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)9. عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع صهيب، وبلال وعمار وخباب قاعداً في أناس ضعفاء من المؤمنين، فقالوا: إنا نريد منك مجلساً تعرف لنا به العرب، فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فنحِّهم عنا، (أو كما قالا)، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، فقال: نعم، فقالا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بالصحيفة ودعا علياً؛ ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل فقال: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم….) الآية.
قال محمد بن الحسين: وأحب له إذا جاءه من يريد أن يقرأ عليه من صغير أو كبير، أن يعتبر كل واحد منهم – قبل أن يلقنه من سورة البقرة – يعتبره بأنه يعرف ما معه من الحمد إلى مقدار: ربع، وسبع، أو أكثر مما يؤدي به إلى صلاته، ويصح أن يؤم به في الصلوات، إذا احتيج إليه، فإن كان يحسنه، وكان تعلَّمه في الكتاب أصلح من لسانه وقوَّمه، حتى يصلح أن يؤدي به الفرائض، ثم يبتدي ويلقنه من سورة البقر10 ويستحب كذلك لمن يلقن إذا قرئ عليه أن يحسن الاستماع إلى من يقرأ عليه، ولا يشتغل عنه بحديث ولا غيره، فالأحرى أن ينتفع به من يقرأ عليه، وكذلك ينتفع هو أيضاً، ويتدبر ما يسمع من غيره، وربما كان سماعه للقرآن من غيره فيه زيادة منفعة وأجرٌ عظيم، ويتأول قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)11 أن لا يدرس عليه وقت الدرس إلا واحد، ولا يكون ثانياً معه، فهو أنفع للجميع، وأما التلقين فلا باس أن يلقن الجماعة.
وينبغي لمن قرأ عليه فأخطأ، أو غلط أن لا يعنفه، وأن يرفق به، ولا يجفو عليه، فإنه لا يؤمن أن ينفر عنه، فلا يعود.
(وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى أحدٍ من الناس، لا إلى الخليفة فما دون ذلك، وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه، قاله الفضيل بن عياض – رحمه الله – ) 12
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة13.
فمن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصفة، فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً، وشفيعاً، وأنيساً، وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه، ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده بكل خير في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.
1 -البقرة: (121).
2 – أخرجه مسلم، رقم 244، (1/549).
3 – الحلية 8/355.
4 – المقصود بالحسد هنا: تمني بلوغ الخير الذي مع الغير، لا تمني زواله؛ كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، رواه البخاري، ومسلم، واللفظ له.–
5 –(أخلاق حملة القرآن) أبي بكر أحمد بن الحسين الأجري – م سنة 360. ط1، 1408هـ – 1987م – مكتبة الدار بالمدينة المنورة – تحقيق عبد العزيز القارئ ص28.
6 – رواه أحمد 1/257، 58 ، 91 – وأبو داود (1/335) والترمذي (4/246)، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني (1173).
7 – مصنف بن أبي شيبة (6/164).
8 – أخلاق أهل القرآن – أبي بكر الأجري صــ111، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان – ط1، 1406هـ – 1986م.
9 – الأنعام (152).
10 – أخلاق أهل القرآن 117.
11 التوبة 204.
12 – أخلاق أهل القرآن 125.
13 – رواه أحمد (2/338) وأبو داود (2/289) وابن ماجه وغيرهم ,صححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (227) .