وسائل حفظ القرآن الكريم
لقد يسر الله -تعالى- القرآن الكريم من وجوه عديدة: فهو ميسر في التلاوة لا يكمله الإنسان حتى يشتاق إلى الرجوع لقراءته مرة ثانية، وهو ميسر في الحفظ لمن كانت له نية صادقة وعزيمة قاطعة، وهو ميسر الأحكام التي توافق فطرة الإنسان، وهو ميسر الفهم يفهمه كل قارئ له غالباً، ولا تجد فيه مقاطع أو آيات أو كلمات معقدة اللفظ، بل هو كما قال الله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } (سورة القمر: 17).
ولمن أراد حفظ كتاب الله -تعالى- وسائل عديدة وطرق كثيرة نذكر منها الآتي:
1- إخلاص النية لله وإصلاح القصد، وجعل حفظ القرآن والعناية به من أجل الله -تعالى- والفوز بجنته، والحصول على مرضاته، فلا أجر ولا ثواب لمن قرأ وحفظ رياء أو سمعة، ولا شك أن من قرأ القرآن مريداً الدنيا وزينتها فهو آثم، قال الله –تعالى-: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (هود 15-16)، ويقول –سبحانه-: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (الإسراء 18-19)، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريءٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارىءٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: ما تركت من سبيل يُحبُّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل: ثم أُمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)).
2- الدافع الذاتي والهِمَّة العالية: وهو أساس لكل من يريد حفظ القرآن، إذ لا بد من تحسس اللذة والسعادة في تلاوة القرآن الكريم، فللقرآن الكريم حلاوة خاصة، ولذة مصاحبة يدركها من يبحث عنها ويتحراها، ولا بد أن يصاحب الدافع الذاتي هِمَّة عالية وعزيمة صادقة، حتى لا تفتر بعد مدة قصيرة قال تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (سورة الأنفال: 2) ، وحيثما تهيأ هذا الدافع الذاتي رأيت الإنسان لا يكلّ من النظر في كتاب الله -سبحانه-، ولا يشبع من تلاوته.
3- اختيار الوقت والمكان المناسب الذي يكون الدارس فيه نشيطاً بعيداً عن الشواغل والتشويش، وبوعي تام لما يقرأ، فكثيراً ما يردد متعلم آيات يود حفظها بخمول مرات كثيرة دون أن يجد نتيجة سارَّة، والسبب انصراف ذهنه إلى شيء آخر. لذلك لابد من اختيار الزمن المناسب؛ لأن هناك أزمنة لا يُستطاع فيها الحفظ. وأجود أوقات الحفظ: الأسحار، وقد قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: ” إن الذهن يصفو أحسن ما يكون في وقت السحر”.
ومن أجود أوقات الحفظ منتصف النهار، والغداة، وحفظ الليل أحسن من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع
4- تنظيم الأوقات وتوزيعها توزيعاً حسناً على ساعات الليل والنهار، ومن أهم فوائد توزيع الوقت: تجدُّد النشاط والهمة، ودفع الكلل والملل، والتعود على الحفظ دون رهق، والإقبال على الجد والتقليل من اللهو.
5- تصحيح النطق والقراءة: ولا يكون ذلك إلا بالسماع من قارئ مُجيد، أو حافظ متقن، ولا يعتمد القارئ على نفسه في قراءة القرآن وتجويده، مهما كان متمكناً من اللغة العربية. والقرآن لا يؤخذ إلا بالتلقي فقد أخذه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من جبريل شفاهاً، وكان الرسول يعرض القرآن على جبريل كل سنة مرة واحدة في رمضان، وعرضه في العام الذي توفي فيه مرتين، وقد أخذ الصحابة القرآن عن الرسول شفاهاً، وأخذه عنهم أجيال الأمة بعدهم منهم. ومما يساعد على تصحيح النطق والقراءة -في هذا الزمن- السماع من الأشرطة لقارئ متقن، ولا يعتمد في ذلك على أشرطة صلاة التراويح.
6- تحديد نسبة الحفظ كل يوم، فمثلاً يحدد عشر آيات كل يومٍ أو صفحة أو حزب أو ربع حزب أو أكثر أو أقل كلٌ حسب استطاعته.
7- إجادة الحفظ: فالأصل أن لا يجاوز الطالب مقرره اليومي حتى يجيد حفظه تماماً، حتى يثبت في الذهن، ومما يعين على ذلك أن يجعله شغله طيلة الليل والنهار، وذلك بقراءته في الصلاة السرية وفي الجهرية إن كان إماماً، وفي النوافل، وخاصة قيام الليل، مع مراعاة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، ومقدار قراءته فيها، وكذلك في أوقات انتظار الصلوات.
8- المحافظة على رسم واحد للمصحف؛ وذلك لأن الإنسان يحفظ بالنظر كما يحفظ بالسمع، حيث تنطبق صور الآيات ومواضعها في المصحف في الذهن مع القراءة والنظر في المصحف، فإذا حفظ من مصاحف مختلفة في الطباعة فإن حفظه يختل؛ نظراً لاختلاف مواضع الآيات في الطبعات المتعددة.
9- الفهم طريق الحفظ: من أعظم ما يعين على الحفظ: فهم الآيات المحفوظة ومعرفة وجه ارتباط بعضها ببعض؛ لذلك ينبغي على الحافظ أن يقرأ تفسير الآيات والسور التي يحفظها، وأن يكون حاضر الذهن عند القراءة.
10- عدم مجاوزة السورة حتى يُربط أولها بآخرها: فبعد إتمام السورة لا ينبغي أن ينتقل إلى سورة أخرى إلا بعد إتمام حفظها تماماً وربط أولها بآخرها وإتقانها.
11- قراءة القرآن الكريم والإكثار منها وخاصة إذا كانت قراءة بالمصحف، وليست سرداً من المحفوظ.
12-التسميع الدائم: ينبغي ألا يعتمد الطالب على تسميع الحفظ لنفسه، بل عليه أن يعرض حفظه على حافظ أو متابع آخر في المصحف، ويكون هذا الحافظ أو المتابع متقناً للقراءة السليمة حتى ينبه إلى الأخطاء أثناء التسميع، مثل أخطاء النطق أو التشكيل أو النسيان، فكثيراً ما يحفظ الفرد السورة خطأً ولا ينتبه لذلك.
13- المتابعة الدائمة: يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها )) متفق عليه. فلا يكاد القارئ يتركه قليلاً حتى ينساه، لذلك لا بد من المتابعة الدائمة والسهر الدائم على حفظ القرآن.. وهذا يعني أن الحافظ لا بد أن يكون له ورد دائم كل يوم.
14- العناية بالمتشابهات: كثيراً ما ترد في القرآن آيات متشابهات في الجملة، ويكون بينها اختلاف يسير فينبغي مراعاة ذلك، وعلى قدر الاهتمام به يكون الحفظ جيداً.
15- اغتنام سنوات الحفظ الذهبية: وهي تقريباً من سن الخامسة إلى الثالثة والعشرين حيث تكون الحافظة في هذه السنوات أفضل من غيرها، ثم يبدأ خط الحفظ بالهبوط، ويبدأ خط الفهم بالصعود، وقد قيل: الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، والحفظ في الكبر كالنقش في الماء.
16- تقليل الأكل: ولنلاحظ بأن كلمة “تقليل” لا تعنى مفهوماً واحداً لدى الجميع فكل فرد يفهمها فهماً خاصاً به نابعاً من تكوينه البدني والعقلي، وما خالط حياته من البيئة والمجتمع أثناء مرحلة التربية والنمو وخير توجيه لنا في هذا المقام هو الالتزام بقول رسول الله: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً: فثلث لطعامه, وثلث لشرابه, وثلث لنفسه)) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن.
والمهم أن يقوم الإنسان من الطعام وهو يشتهيه، ولا يأكل إلا إذا جاع كما قيل: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع. وقيل: “البطنة تذهب الفطنة”.
والغرض الأساسي من تقليل الطعام هو: أن المعدة إذا امتلأت ثقل الجسم وارتخى، فتكون التخمة ثم البطنة، ويلحق ذلك بالضرورة غياب الفهم الناتج عن كَلِّ الحواس، ولهذا تقول الحكمة: المعدة بيت الداء.
17- من أعظم المعينات على الحفظ والفهم قيام الليل والدعاء فيه: وخاصة في الثلث الأخير من كل ليلة، ولا يسعنا ذكر الفوائد المترتبة على قيام الليل والدعاء ويمكن العودة إلى كتب الرقائق لمن شاء أن يعرف أو يستزيد.
18-السواك: فقد ثبت أنه يُحد الذاكرة، ويشحذها وقد ذكر العلماء أن في السواك أكثر من سبعين فائدة، والمقصود بالسواك هنا عود الأراك. وكما قيل: “ثلاثة يزدن في الحفظ ويذهبن البلغم: السواك، والصوم، وقراءة القرآن”.
19- بعض الأغذية والأطعمة: مثل شرب العسل وأكل الزبيب على الريق, وهذا مجرب.
20-مصحف الحفاظ: ويتميز بأن الصفحة دائماً تبدأ برأس آية وتختتم بآخر آية، وأن الأجزاء لا تبدأ إلا برؤوس الصحائف مما ييسر على القارئ تركيز بصره في الآية حتى ينتهي من استظهارها، من غير أن يتوزع ذهنه بين صفحتين.
21- المصحف المجزأ: سواء أكان كل جزء مستقل، أو كل خمسة أجزاء مستقلة، فبالإمكان الاحتفاظ بواحد في الجيب بسهولة ويسر.
22- قراءة الآيات قراءة متأنية: يستحسن لمن أراد الحفظ تلاوة الآيات تلاوة متأنية قبل الحفظ؛ ليرسم لنفسه الصورة العامة لها.
23- الطريقة الثنائية: ينبغي أن يبحث عن أخٍ يشترك معه في الحفظ ويتخذه خليلاً في الذهاب والإياب والمدارسة، ويستحسن وجود التلاؤم والوفاق بينهما من الناحية النفسية والتربوية والدراسية والسن أيضاً، حتى تثمر هذه الطريقة في الحفظ.
24- تقسيم الآيات إلى مقاطع: يربطها مثلاً موضوع واحد، وتحفظ من أولها إلى آخرها جملة، أو يمكن اعتبار خمسة آيات تبدأ أو تنتهي بحرف معين مقطعاً مستقلاً أو آية جامعة تبدأ بـ {يا أيها الذين آمنوا } أو{يا أيها الناس} وغير ذلك.. وبهذا التقسيم تصغر الصفحة في نظر القارئ وتصبح كل صفحة مقطعين أو ثلاثة يمكن حفظها بسهولة.
25- طريقة الكتابة: وتتم بأن يكتب الطالب المقطع بيده على السبورة أو على ورقة بالقلم الرصاص، ثم يحفظها، ثم يبدأ بمسح المقطع بالتدريج لينتقل إلى مقطع آخر. وقد قيل: (ما حفظ وكتب قرَّ) أي استقر في الذهن.
26- طريقة مقترحة للمراجعة: يمكنك أن تأتي بكراسة من الورق الأبيض، في نفس حجم طبعة المصحف الذي تحفظ منه، ثم ترقم صفحاتها بنفس ترقيم المصحف، مع قيامك برسم المستطيل الداخلي في كل ورقة، بنفس مقاس تلك الطبعة، ثم بعد ذلك تقوم بكتابة الكلمات التي أنسيتها أو التبس عليك حفظها، بخط واضح كاللون الأحمر مثلاً، مع تركك باقي الصفحة دون كتابة، فإذا أردت مراجعة سورة ما نظرت إلى تلك الكراسة. ويمكن استعمال أقلام التظهير- الفسفوري – على الكلمات محل الالتباس في الحفظ وتظهيرها في المصحف مباشرة، وعند المراجعة تقرأ فقط الكلمات المظهرة.
27- الالتزام بالبرنامج المكتوب: لا بد أن يعتمد من أراد حفظ القرآن برنامجاً محدداً مكتوباً يلتزم به يومياً، ويكون هذا البرنامج حسب طاقته وقدرته على الحفظ، فضع لك برنامجاً تستطيع الاستمرار بتنفيذه.
28- الالتحاق بمدارس وحلقات تحفيظ القرآن في المساجد أو غيرها، فإنها تعين الراغب في الحفظ على المتابعة وفهم المعنى وإتقان التلاوة. وهي من أنفع الطرق للصغار والفتيان في حفظ القرآن.
29- الالتزام بإمامة مسجد من المساجد: وتعتبر وسيلة ناجحة جداً لمن يستطيعها، وهي تجعل الفرد في متابعةٍ وحرصٍ على إتقان الحفظ دائماً.
30- الترديد والتكرار: ويقصد به الترديد مع المعلم أو مع شريط لقارئ متقن التجويد، وتكرار سماع الشريط؛ لأن السماع من الوسائل القوية في الحفظ عند كثير من الناس، فيُرسِّخ السماع في الذهن كما يرسخ مكان الكلمات في المصحف.
وهذه الطريقة مفيدة، وهي من أكثر الطرق ثمرة خاصة مع الصغار. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: (حفظت من فِيِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعاً وسبعين سورة).
31- العمل بما يحفظ: قال بعض السلف: “كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به”.
32- الإكثار من الأعمال الصالحة وتقوى الله، فقد قال -تعالى-: {واتقوا الله ويعلمكم الله}.
33-استشعار الأجر العظيم المترتب على تلاوة القرآن الكريم. فلا ننسى أن كل حرف ننطقه عند قراءة القرآن بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها. ففي’بسم الله الرحمن الرحيم’ مثلاً 19 حرفًا.. تحتسب بـ190 حسنة!.. فقط عند التسمية 190 حسنة إلى سبعمائة ضعف.. فكيف بالآيات الكثيرة والتكرار التلقائي مع الحفظ وبعد الحفظ ؟!
وفي الأخير لا نملك إلا أن نقول: إن هذه بعض الوسائل وليست كلها، ولم نذكرها على سبيل الحصر، والمهتم بالقرآن وتدريسه سيجد وسائل أخرى غير ما ذكر.
اللهم أعنا على حفظ كتابك يا رب العالمين، وارزقنا عونك وتوفيقك والصدق والإخلاص والقبول وحسن العاقبة.. آمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.