الفطرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:
فإن من محاسن شريعة الله – تعالى – أنها جاءت موافقة للفطرة التي فطر الناس عليها، ومراعيةً لجوانب النفس الإنسانية كلها، وبهذا بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت أمور الدنيا والآخرة.
فالإسلام دين الفطرة التي قال فيها سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا(سورة الروم: من الآية 30)، وعن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ : كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء؟1 والفطرة: من الفَطْر، والفَطْر: هو الخلق، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(سورة فاطر:1) وهي الخِلقة الأصلية التي خُلق الناس عليها، فهناك أشياء فطرية، وأشياء مكتسبة.
“وهي في الشرع: الحالة التي خلقوا عليها من الإيمان، والمعرفة، والإقرار بالربوبية، فمعنى هذا الحديث أن كل مولود يولد على الفطرة التي خلق عليها من الإيمان”2.
“قوله: يولد على الفطرة ظاهره تعميم الوصف المذكور في جميع المولودين، وأصرح منه رواية يونس المتقدمة بلفظ: ما من مولود إلا يولد على الفطرة ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة، حتى يعبر عنه لسانه، وفي رواية له من هذا الوجه: ما من مولود إلا وهو على الملة3 قال ابن حجر: “وقد اختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة … وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة: الإسلام، قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف .. وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (سورة الروم:30) الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب: “اقرؤوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وبحديث عياض بن حمار عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم…4 الحديث. وقد رواه غيره فزاد فيه: حنفاء مسلمين5، ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه ﷺ بلزومها، فعلم أنها الإسلام … قال الطيبي: والمراد تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد، انتهى.
وإلى هذا مال القرطبي في (المفهم) فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات، والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية؛ أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق” وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله: يولد على الفطرة أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول: وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا(سورة النحل:78)، ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً، بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا، والله أعلم”6.
وقال صاحب فيض القدير:” فطرة الله التي فطر الناس عليها أي الخلقة التي خلق الناس عليها من الاستعداد لقبول الدين والنهي لتتجلى بالحق، وقبول الاستعداد والتأبي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب”7، وقال ابن الأثير: “الإنسان يولد على نوع من الجبلة والطبع المهيأ لقبول الدين، فلو ترك الأمر عليها لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل من يعدل لآفة من البشر والتقليد”.
فالأشياء الفطرية: هي التي لا تحتاج إلى تلقين، ولا إلى اكتساب وتعليم، بل يولد الإنسان عليها، فالإنسان مفطور على أنه يؤمن بإله لهذا الكون، ومفطور على حب الصدق، وكراهية الكذب، وحب الأمانة، وكراهية الخيانة، والإنسان مفطور على حب من أحسن إليه، كما قيل: النفوس جُبِلت على محبة من أحسن إليها، والناس مفطورين على حب الوفاء، وكراهية الغدر، وحُسن الفضيلة، وقُبح الرذيلة، هذا أمر طبيعي، وهذه القيم ثابتة، لا يمكن أن تتغير عند أصحاب الفطر السليمة، هذه أمور فطرية، وهي كلها خير، وكل ما يضاد الفطرة ليس من ورائه مصلحة للإنسان ولا لغيره.
إذاً فالإسلام جاء بمراعاة الفطرة، لم يأت مصادماً لها، ولم يتمرد عليها، بل جاء في العقائد، والتشريعات، والأخلاق، وفي الآداب برعاية الفطرة.
ولذلك لم يحرم الطيبات، لأن – من الفطرة – أن الإنسان يحب الطيبات، ويكره الخبائث، ويحب الأشياء الجميلة، ويكره القبيحة، ولذلك الإسلام لم يشرع الرهبانية لأن الرهبانية هي نوع من تعذيب الجسد من أجل تصفية الروح، وهناك أديان وفلسفات تقوم على إيلام الجسد بدعوى أن هذا هو الذي يرتقي بالروح، هناك أديان ومذاهب كالرهبانية المسيحية حرمت على الإنسان أن يتزوج، وحرمت عليه طيبات الدنيا، وهذا كله خروج على الفطرة، فالدين لا يُحرِّم على الناس شيئاً يحتاجون إليه، ولا يضرهم. إن النفس الإنسانية تشتمل على ثلاثة جوانب رئيسة وهي: الجسم، والعقل، والروح، والإسلام حرص على الربط بين هذه الجوانب كلها، لأنه دين الفطرة، ولذلك جاءت الشخصية المسلمة سويةً متوازنةً ومتكاملة، لم يطغ فيها جانبٌ على آخر، أو تهمل جانبٌ على حساب جانب.
والفطرة هي ما جبل عليه الإنسان في أصل خلقته من الأشياء الظاهرة والباطنة، فهناك فطرة (باطنة) تتعلق بالقلب وهي: معرفة الله، وتوحيده، ومحبته، وهناك فطرة (عملية) ظاهرة تتعلق بالبدن، وهي خصال الفطرة الخمس، التي وردت في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: الفطرة خمس – أو خمس من الفطرة -: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب8. قال ابن حجر: “… فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث خمس عشرة خصلة”9 وهي الختان، والسواك، والاستحداد، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والانتضاح، وغسل البراجم، والمضمضة والاستنشاق، والاستنثار والاستنجاء، وفرق الشعر، وغسل الجمعة.
فالفطرة الباطنة تزكي الروح، وتطهر القلب، والفطرة الظاهرة تطهر البدن، وكما ورد في حديث الإسراء والمعراج عندما خَيّر جبريل النبي ﷺ تاركاً الخمر، وشارباً اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة10، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفة عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – في تفسير قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ(سورة البقرة:124) قال: “أبتلاه بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء”11 وقال أبو شامة: “الفطرة في الخلقة المبتدئة أي أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها، واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات، وأشرفها”.
وقد فسر كثير من العلماء الفطرة التي ورد ذكرها في الأحاديث النبوية بأنها السنة أي الطريقة التي جاء بها الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام -، وقد أمر الله – سبحانه – نبيه المصطفى – عليه الصلاة والسلام – بالاقتداء بهم في قوله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (سورة الأنعام:90).
وخصال الفطرة هذه قد حث عليها الإسلام، لأنها تحقق النظافة، والطهارة، والذوق السليم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
1– صحيح البخاري (ج5 / ص182) وفي مسلم (ج13 / ص127) بلفظ: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (سورة الروم:30).
2– المنتقى شرح الموطأ (ج2 / ص71)
3– فتح الباري لابن حجر (ج4 / ص465)
4– صحيح مسلم (ج14 / ص24 – 5109)
5– المعجم الكبير للطبراني (ج12 / ص339 – 14404)
6– فتح الباري لابن حجر (ج4 / ص465)
7– فيض القدير (ج5 / ص43)
8– صحيح البخاري (ج18 / ص245 – 5439) وفي (ج18 / ص248 – 441) وفي (ج19 / ص350 – 5823) وصحيح مسلم (ج2 / ص67 – 377) وفي (ج2 / ص68 – 378)
9– فتح الباري لابن حجر (ج16 / ص479)
10– صحيح البخاري (ج14 / ص316 – 4340) وفي (ج17 / ص280 – 5148) وصحيح مسلم (ج10 / ص279 – 3751)
11– السنن الكبرى للبيهقي (ج1 / ص149) والمستدرك على الصحيحين للحاكم (ج7 / ص183 -3010).