هيا نعمل صالحاً على منهاج النبوة

هيا نعمل صالحاً على منهاج النبوة

هيا نعمل صالحاً على منهاج النبوة

الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً, ونوَّع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلاً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي شمر للحاق بالرفيق الأعلى, والوصول إلى جنات المأوى, ولم يتخذ سواها شغلاً, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى, وسلَّم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فقد ثبت في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ, وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ, وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا, وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)1.

ففي هذا الحديث حثٌّ وتحضيض للمسلم أن يشمِّر في الحفاظ على العمل الصالح واجباته ومندوباته؛ لينال الفوز برضا الله عنه, ومحاربة الله لمن عاداه وآذاه، ويمنحه الفوز بالجنة في الآخرة, ويوفقه لما فيه نجاته من الشر, فيصير العبد وليَّاً من أولياء الله الذين قال الله فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (62-64) سورة يونس.

ولئن كان العبد مطالباً بالتقرب إلى الله بالعمل الصالح فإنه مطالب بالدرجة الأولى أن يتنبه لما يجعل عمله مقبولاً عند الله تعالى, ويتجنب كل ما يحبط عمله أو ينقصه أو يؤدي به إلى تركه بعد أن كان حريصاً عليه, فذاك هو الأصل في صحة العبادة ومن ثم قبولها وإعانة الله للعبد عليها.

ولقبول العمل الصالح ضوابط وشروط وآداب ينبغي التحلي بها ليعان الإنسان على الثبات حتى يلقى الله وهو على عمل صالح.

ضوابط صحة وقبول العمل الصالح:

اعلم -أخي المسلم-أن العمل الصالح لا يكون مقبولاً عند الله إلا بشرطين هما: الإخلاص والمتابعة.

فأما الإخلاص فمعناه أن يكون العمل خالصاً لله -عز وجل- لا يُريد به الإنسان رياء ولا سمعة؛ قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (5) سورة البينة.  وقال -عليه الصلاة والسلام- (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)2. وقال -صلى الله عليه وسلم-: قال اللّهُ -تبارك وتعالى-: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)3.

وأما متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء. ومن مشاقّـة النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتداع ما لم يشرعه لأمته ولم يتعبّد به عليه الصلاة والسلام؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ)4.

وسُئل الفضيل بن عياض –رحمه الله- عن قوله -تعالى-: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2) سورة الملك. قال: هو أخلص العمل وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة, وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف". فلا بـدّ من اجتماع الإخلاص لله مع المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في العمل, قال ابن القيم –رحمه الله-: لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين"5.

وبهذين الشرطين يتحصن المسلم من ألد أعدائه ألا وهو الرياء والبدعة والشرك. 

يقول ابن أبي العز الحنفي –رحمه الله -: (فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول, صلى الله عليه وسلم"6.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما: أن لا نعبد إلا الله, والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع, فلا نعبده بعبادة مبتدعة, وهذان الأصلان هما تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}"7.

ويقول ابن القيم -رحمه الله-: (فلا يكون العبد متحققاً بـ{إِيَّاكَ نَعْبُدُُ} إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, والثاني: الإخلاص للمعبود"8.

لماذا كانت البدع منكرة:

في البدع سوء أدب مع مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الإمام مالك -رحمه الله-: "من ابتدع في الدين بدعة فرآها حسنة فقد اتـّهم أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-، فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}(3) سورة المائدة، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً", فكأن من يبتدع في دين الله يستدرك على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويُريد أن يعمل عملاً لم يعمله -عليه الصلاة والسلام- بحجة أن ذلك العمل من أعمال الخير, فهل نحن أحرص على الخير من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أصحابه؟؟

القصد القصد تبلغوا:

مما يعين العبد على طاعة الله والثبات عليها القصد في العبادة دون إفراط ولا تفريط, وفي هذا تحقيق مقصد اليسر في شريعة الله الذي لا يريد لعباده المشقة والحرج, كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (185) سورة البقرة. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (78) سورة الحـج.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)9.

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)10.

وعنها -رضي الله عنها- قالت: "سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟, قَالَ: (أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ, وَقَالَ: اكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ)11.   

قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح حديث (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا): "ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة", وقال في شرح (واكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ): أي قدر طاقتكم.

والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية, لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملل"12.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الاقتصاد في العبادة… إلى أن قال: فمتى كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها فهي محرمة، مثل أن يصوم صوماً يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب, وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم, وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة"13.

وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- في معرض شرحه للأحاديث السابقة أن فيها إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله -عز وجل- شيئان:

أحدهما: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، وهكذا كان عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمل آله وأزواجه من بعده, وكان ينهى عن قطع العمل.

والثاني: أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير.

وقال ابن رجب -رحمه الله- في شرح (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا): المراد بالتسديد: العمل بالسداد، وهو القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.

إن من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال؛ فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها، فمن سلكها فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها, وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره, وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله -عز وجل- صواباً على السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها, فمن كان بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك, وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح.

 

وسائل معينة للمداومة على العمل الصالح:

هاك –أخي الكريم-  وسائل إن التزمتها أُعنت -بإذن الله- على المداومة على العمل الصالح وهي:

1- أولاً وقبل كل شي طلب العون من الله –عز وجل- على الهداية والثبات, وقد أثنى الله على دعاء الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (8) سورة آل عمران.

2- الإكثار من مُجالسة الصالحين والحرص على مجالس الذكر العامة والخاصة.

3- التعرف على سير الصالحين من خلال القراءة للكتب, أو استماع الأشرطة وخاصة الاهتمام بسير الصحابة فإنها تبعث في النفس الهمة والعزيمة.

4- الإكثار من سماع الأشرطة الإسلامية المؤثرة كالخطب والمواعظ, وزيارة التسجيلات الإسلامية بين وقت وآخر.

5- الحرص على الفرائض كالصلوات الخمس؛ فإن في الفرائض خيراً عظيماً.

6- الحرص على النوافل والمداومة عليها؛ فان أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل.

7- البدء بحفظ كتاب الله والمداومة على تلاوته, وأن تقرأ ما تحفظ في الصلوات والنوافل.

8- الإكثار من ذكر الله والاستغفار؛ فإنه عمل يسير ونفعه كبير يزيد الإيمان ويُقوي القلب.

9- البعد كل البعد عن مفسدات القلب من أصحاب السوء, والنظر إلى المحرمات، والاستماع للغناء والطرب، وغير ذلك.

10- وأخيراً أوصيك -أخي الكريم- بالتوبة العاجلة, التوبة النصوح التي ليس فيها رجوع؛ فإن الله يفرح بعبده إذا تاب أشد الفرح, واحذر أن تكون من أولئك القوم الذين لا يعرفون الله إلا في المواسم فقط كحال أولئك الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فقط, الذين قال فيهم السلف: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان".

وليكن همك أن تعيش كما عاش هؤلاء:

لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدريس اشتد عليه الكرب فلما أخذ يشهق بكت ابنته, فقال: يا بنيتي لا تبكي فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة..كلها لأجل هذا المصرع..

أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير –رحمه الله- فلقد كان على فراش الموت يعد أنفاس الحياة وأهله حوله يبكون, فبينما هو يصارع الموت سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب ونفسه تحشرج في حلقه, وقد أشتدّ نزعه وعظم كربه, فلما سمع النداء قال لمن حوله: خذوا بيدي! قالوا: إلى أين؟  قال: إلى المسجد, قالوا: وأنت على هذه الحال!! قال: سبحان الله!! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه؟ خذوا بيدي.. فحملوه بين رجُلين فصلى ركعة مع الإمام ثمّ مات في سجوده.. نعم مات وهو ساجد بين يدي الله..

واحتضر عبد الرحمن بن الأسود فبكى فقيل له: ما يبكيك وأنت أنت! يعني في العبادة والخشوع والزهد والخضوع؟! فقال: أبكي والله أسفاً على الصلاة والصوم, ثمّ لم يزل يتلو حتى مات..

أما يزيد الرقاشي فإنه لما نزل به الموت أخذ يبكي ويقول: من يصلي لك يا يزيد إذا متّ؟ ومن يصوم لك؟ ومن يستغفر لك من الذنوب ثم تشهد ومات..

وها هو هارون الرشيد لما حضرته الوفاة وعاين السكرات صاح بقواده وحجابه: اجمعوا جيوشي فجاؤوا بهم بسيوفهم ودروعهم لا يكاد يحصي عددهم إلا الله كلهم تحت قيادته وأمره فلما رآهم.. بكى ثم قال: يا من لا يزول ملكه.. ارحم من قد زال ملكه, ثم لم يزل يبكي حتى مات..

أما عبد الملك بن مروان فإنه لما نزل به الموت جعل يتغشاه الكرب, ويضيق عليه النفس فأمر بنوافذ غرفته ففتحت, فالتفت فرأى غسالاً فقيراً في دكانه, فبكى عبد الملك ثم قال: يا ليتني كنت غسالاً, يا ليتني كنت نجاراً, يا ليتني كنت حمالاً, يا ليتني لم ألِ من أمر المؤمنين شيئاً, ثم مات..

وهذا زوج نجاه الله من الغرق في حادث الباخرة, يحكي قصة زوجته التي غرقت في طريق العودة من رحلة الحج يقول: ‘صرخ الجميع إن الباخرة تغرق وصرختُ فيها هيا اخرجي, فقالت: والله لن أخرج حتى ألبس حجابي كله, فقال: هذا وقت حجاب! اخرجي! فإننا سنهلك!, قالت: والله لن أخرج إلا وقد ارتديت حجابي بكامله فإن متُّ ألقى الله على طاعة, فلبست ثيابها وخرجت مع زوجها وهي في حالة سيئة, فتعلقت به وقالت: استحلفك بالله هل أنت راضٍ عني؟ فبكى الزوج, قالت هل أنت راضٍ عني؟ فبكى, قالت أريد أن أسمعها, قال والله إني راضٍ عنك. فبكت المرأة الشابة وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وظلت تردد الشهادة حتى ماتت, فبكى الزوج وهو يقول: أرجو الله أن يجمعني بها في الآخرة في جنات النعيم.

وهكذا أجرى ربنا الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه, ومن مات على شيء بعث عليه, نسأل الله أن يتوفانا على طاعته.

أثر العمل الصالح على الأخلاق:

إخواني المسلمين والمسلمات:

إذا تأملنا في عبادات الإسلام الكبرى وأركانه العظمى، عجبنا من تلك الأواصِر العظيمة التي تجمع الخلُق والدّين والعبادةِ والأدب، فالصّلاة مثلاً تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، والزّكاة صدقةٌ تطهِّر المسلمَ وتزكّيه. وفي الصيام: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)14. والحجّ أشهر معلومات: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (197) سورة البقرة.

وفي حق الجار يقول –صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ, وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ, وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ, قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ)15., (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)16. (وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ)17. وأخيراً إذا لم يكن لك من عبادتِك ما يزكّي قلبك, ويطهِّر نفسَك ويهذّب سلوكك, ويُحسِّن خلقك وينظّم صلتَك بالله وبالنّاس, فلتحاسِب نفسَك حتى لا تكونَ من المفلسين، ولتتعرف على أخلاقك بالنّظر في أحوالك، في غضبِك, وإذا خلوت وإذا احتجت وإذا استغنيت وإذا قَدرت وإذا عجزت، حتى تأخذ من الأخلاق أحسنها، وتلتمس أكرمها، فتنال فضلها وخيرها.

وفق الله الجميع إلى مرضاته, وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين18.


 


1 رواه البخاري -621- (20/158).

2رواه النسائي -3089- (10/204) وقال الألباني حسن صحيح كما في تحقيق سنن النسائي رقم(3140).

3 رواه مسلم -5300- (14/254).

4 رواه البخاري -2499- (9/201) ومسلم -3242- (9/118).

5 كتاب الفوائد لـ(ابن القيم (1/31). 

6 شرح الطحاوية في العقيدة السلفية – (1/447) لـ(صدر الدين علي بن علي بن محمد بن أبي العز).

7 مجموع الفتاوى  (1/333) لـ(ابن تيمية).

8 مدارج السالكين   (1/83).

9 رواه البخاري -5982- (20/99).

10 رواه البخاري -5983- (20/100).

11 رواه البخاري -5984- (20/101).

12 فتح الباري لابن حجر  (18/286).

13 مجموع الفتاوى (25/275).

14 رواه البخاري -1770- (6/472).

15 رواه البخاري -5557- (18/433).

16 رواه البخاري -5559- (18/437) ومسلم -68- (1/164).

17 رواه البخاري -8- (1/13) ومسلم -50- (1/139).

18 استفيد من موقع المختار الإسلامي بتصرف.