رب أخ لك لم تلده أمك
الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولاً وامتناناً، وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخواناً، ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا أصدقاء وأخداناً، وفي الآخرة رفقاء وخلاناً، والصلاة والسلام على محمد المصطفى، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه، واقتدوا به قولاً، وفعلاً، وعدلاً، وإحساناً، أما بعد:
فإن التأليف بين القلوب نعمة من الله، فرب أخ لك في الدين هو أفضل من أخ النسب، ولهذا قال الحسن: كم من أخ لم تلده أمك؟ إذاً فالتحاب في الله – تعالى -، والأخوة في دينه؛ من أفضل القربات، وألطف ما يستفاد من الطاعات في مجاري العادات، ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله – تعالى -، وفيها حقوق بمراعاتها يصفو الأخوة عن شوائب الكدورات، ونزعات الشيطان، فبالقيام بحقوقها يتقرب إلى الله زلفى، وبالمحافظة عليها تنال الدرجات العلى، فالألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق.
فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر، وقال ﷺ: ما من رجلين تحابا في الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه1، ويقال:إن الأخوين في الله إذا كان أحدهما أعلى مقاماً من الآخر؛ رُفِع الآخر معه إلى مقامه، وإنه يلتحق به كما تلتحق الذرية بالأبوين، والأهل بعضهم ببعض؛ لأن الأخوة إذا اكتسبت في الله لم تكن دون أخوة الولادة.
وقال ﷺ: إن الله تعالى يقول: قَدْ حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَصَافُّونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَزَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَبَاذَلُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ مِنْ أَجْلِي2، وقال ﷺ: إن الله – تعالى – يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي3، وقال ﷺ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ؛ نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا4، وقال ﷺ: أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله5، وقال ابن مسعود : “لو أن رجلاً قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب”، وقال الحسن : “مصارمة الفاسق قربان إلى الله” وقال رجل لمحمد بن واسع: “إني لأحبك في الله” فقال: “أحبك الذي أحببتني له”، ثم حول وجهه وقال: “اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك؛ وأنت لي مبغض”، ودخل رجل على داوود الطائي فقال له: ما حاجتك؟ فقال: زيارتك، فقال: أما أنت فقد عملت خيراً حين زرت، ولكن انظر ماذا ينزل بي أنا إذا قيل لي: من أنت فتزار؟ أمن الزهاد أنت؟ لا والله، أمن العباد أنت؟ لا والله، أمن الصالحين أنت؟ لا والله، ثم أقبل يوبخ نفسه ويقول: كنت في الشبيبة فاسقاً، فلما شخت صرت مرائياً، والله للمرائي شر من الفاسق”، وقال عمر : “إذا أصاب أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به، فقلما يصيب ذلك”.
واعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان قال ﷺ: المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل6 ولا بد أن يتميز بخصال وصفات يرغب بسببها في صحبته، وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة، إذ معنى الشرط ما لا بد منه للوصول إلى المقصود، فبالإضافة إلى المقصود تظهر الشروط. ويطلب من الصحبة فوائد دينية ودنيوية: أما الدنيوية فكالانتفاع بالمال، أو الجاه، أو مجرد الاستئناس بالمشاهدة والمجاورة، وليس ذلك من أغراضنا، وأما الدينية: فيجتمع فيها أيضاً أغراض مختلفة إذ منها الاستفادة من العلم، والعمل، ومنها الاستفادة من الجاه تحصناً به عن إيذاء من يشوش القلب، ويصد عن العبادة، ومنها استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت، ومنها الاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب، وقوة في الأحوال، ومنها التبرك بمجرد الدعاء، ومنها انتظار الشفاعة في الآخرة فقد قال بعض السلف: “استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة، فلعلك تدخل في شفاعة أخيك”.
ويقال: إذا غفر الله للعبد شفع في إخوانه، ولذلك حث جماعة من السلف على الصحبة، والألفة، والمخالطة، وكرهوا العزلة والانفراد، فهذه فوائد تستدعي كل فائدة شروطاً لا تحصل إلا بها، “عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين من القوم، ولا أمين إلا من خشي الله، فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله – تعالى -“.
وأما حسن الخلق المشروط فيمن تصاحبه فقد جمعه علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال: “يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدَّق قولك، وإن حاولتما أمراً أمرك، وإن تنازعتما آثرك، فكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة، وشرط أن يكون قائماً بجميعها”، قال ابن أكثم: قال المأمون: فأين هذا؟ فقيل له: أتدري لم أوصاه بذلك؟ قال: لا، لأنه أراد أن لا يصحب أحداً!.
قال علي : “أحيوا الطاعات بمجالسة من يستحيا منه”، وقال أحمد بن حنبل – رحمه الله -: “ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه”، وقال لقمان: “يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل القطر”.
ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي : “لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إليَّ من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين”، وقال أيضاً: “لأن أصنع صاعاً من طعام، وأجمع عليه إخواني في الله؛ أحب إليَّ من أن أعتق رقبة”، فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة، وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة كيف وقد قال الله تعالى: أَوْ صَدِيقِكُمْ (سورة النور:61)، وقال: أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ (سورة النور:61)، إذ كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه، ويفوض له التصرف كما يريد فقال: خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها؛ فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات، وعده في الموتى”، قال جعفر بن محمد: “إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني: هذا في الأعداء فكيف في الأصدقاء”؟ وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم، ويمونهم من ماله، فكانوا لا يفتقدون من أبيهم إلا عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياته، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه، ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم ملح، هل لكم حاجة؟ وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وكان الحسن يقول: “إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا بالآخرة”، وقال عطاء: “تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا نسوا فذكروهم”، وقال الشعبي في الرجل يجالس الرجل فيقول “أعرف وجهه ولا أعرف اسمه”: تلك معرفة النوكي.
ومن حق الأخ أن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سبك من بلغك، وقال أنس: “كان ﷺ لا يواجه أحداً بشيء يكرهه”، والتأذي يحصل أولاً من المبلغ، ثم من القائل، نعم لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه، فإن السرور به أولاً يحصل من المبلغ للمدح، ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد، وقال الفضيل: “الفتوة العفو عن زلات الإخوان”.
وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه، ويمكن تقبيحه أيضاً، قال الشافعي – رحمه الله -: “ما أحد من المسلمين يطيع الله، ولا يعصيه، ولا أحد يعصي الله، ولا يطيعه” وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه يجب عليك السكوت بقلبك، وذلك بترك إساءة الظن، فسوء الظن غيبة بالقلب، وهو منهي عنه أيضاً، وحدُّه أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن، فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فلا يمكنك أن لا تعلمه، وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن.
وكان أبو سعيد الثوري يقول: “إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه، ثم دس عليه من يسأله عنك، وعن أسرارك، فإن قال خيراً، وكتم سرك؛ فاصحبه”، وقيل لأبي يزيد: من تصحب من الناس؟ قال: “من يعلم منك ما يعلم الله، ثم يستر عليك كما يستره الله”، وقال ذو النون: “لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوماً، ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها”، وقد قال بعض الحكماء: “لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: عند غضبه، ورضاه، وعند طمعه، وهواه”، بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال ولذلك قيل:
وترى الكريم إذا تصرم وصله | يخفي القبيح ويظهر الإحسانا |
وترى اللئيم إذا تقضى وصله | يخفي الجميل ويظهر البهتانا |
وقال العباس لابنه عبدالله : “إني أرى هذا الرجل (يعني عمر ) يقدمك على الأشياخ، فاحفظ عني خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة”، فقال الشعبي: كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف، وقد قال الحسن: “لا تشتر عداوة رجل بمودة ألف رجل”.
ومن ذلك أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة، وكذلك الثناء على أولاده، وأهله، وصنعته، وفعله، حتى على عقله، وخلقه، وهيئته، وخطه، وشعره، وتصنيفه، وجميع ما يفرح به، وذلك من غير كذب وإفراط، ولكن تحسين ما يقبل التحسين لا بد منه.
فإن علمته وأرشدته ولم يعمل بمقتضى العلم فعليك النصيحة، وذلك بأن تذكر آفات ذلك الفعل، وفوائد تركه، وتخوفه بما يكرهه في الدنيا والآخرة؛ لينزجر عنه، وتنبهه على عيوبه، وتقبح القبيح في عينه، وتحسن الحسن، ولكن ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة، إذ قال ﷺ: المؤمن مرآة أخيه7 أي يرى منه ما لا يرى من نفسه، فيستفيد المرء بأخيه معرفة عيوب نفسه، ولو انفرد لم يستفد كما يستفيد بالمرآة الوقوف على عيوب صورته الظاهرة، وقال الشافعي : “من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”، وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: “إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم، وإن قرعني بين الملأ فلا”، وقد صدق فإن النصح على الملأ فضيحة، والله – تعالى – يعاتب المؤمن يوم القيامة تحت كنفه في ظل ستره، فيوقفه على ذنوبه سراً، وقد يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفون به إلى الجنة، فإذا قاربوا باب الجنة أعطوه الكتاب مختوماً ليقرأه، وأما أهل المقت فينادون على رؤوس الأشهاد، وتستنطق جوارحهم بفضائحهم، فيزدادون بذلك خزياً وافتضاحاً، ونعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر، فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان، كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ لسلامة دينك، ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء؛ فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك، واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك؛ فأنت مداهن، قال ذو النون: “لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة”.
أما ما يتعلق بتقصيره في حقك فالواجب فيه الاحتمال، والعفو، والصفح، والتعامي عنه، والتعرض لذلك ليس من النصح في شيء، نعم إن كان بحيث يؤدي استمراره عليه إلى القطيعة؛ فالعتاب في السر خير من القطيعة، والتعريض به خير من التصريح، والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكل، وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية، أو في حقك بتقصيره في الأخوة، أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية، والإصرار عليها؛ فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده، ويجمع شملهن ويعيد إلى الصلاح والورع حاله، فإن لم تقدر وبقي مصرَّاً فقد اختلفت طرق الصحابة والتابعين في إدامة حق مودته أو مقاطعته، فذهب أبوذر إلى الانقطاع وقال: “إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته”، ورأى ذلك من مقتضى الحب في الله، والبغض في الله، وأما أبو الدرداء وجماعة من الصحابة فذهبوا إلى خلافه؛ فقال أبو الدرداء : “إذا تغير أخوك، وحال عما كان عليه؛ فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة، ويستقيم أخرى”، وقال إبراهيم النخعي: “لا تقطع أخاك، ولا تهجره عند الذنب بذنبه؛ فإنه يرتكبه اليوم، ويتركه غداً”، وقال جعفر بن سليمان: “مهما فترت في العمل نظرت إلى محمد بن واسع، وإقباله على الطاعة، فيرجع إليَّ نشاطي في العبادة، وفارقني الكسل، وعملت عليه أسبوعاً”، وهذا التحقيق، وهو أن الصداقة لحمة كلحمة النسب، والقريب لا يجوز أن يهجر بالمعصية، ولذلك قال الله – تعالى – لنبيه ﷺ في عشيرته: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (سورة الشعراء:216)، ولم يقل: إني بريء منكم؛ مراعاة لحق القرابة، ولحمة النسب، وإلى هذا أشار أبو الدرداء لما قيل له: ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا؟ فقال: “إنما أبغض عمله، وإلا فهو أخي”، وكان الحسن يقول: “كم من أخ لم تلده أمك”، ولذلك قيل: “القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة”، وقال جعفر الصادق : “مودة يوم صلة، ومودة شهر قرابة، ومودة سنة رحم مائية، من قطعها قطعه الله” فإذن الوفاء بعقد الأخوة إذا سبق انعقادها واجب.
والدعاء للأخ في حياته، وبعد مماته بكل ما يحبه لنفسه، ولأهله، وكل متعلق به، فتدعو له كما تدعو لنفسك، ولا تفرق بين نفسك وبينه، فإن دعاءك له دعاء لنفسك على التحقيق؛ وكان أبو الدرداء يقول: “إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم”.
ومعنى الوفاء: الثبات على الحب، وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده، وأصدقائه، فإن الحب إنما يراد للآخرة، فإن انقطع قبل الموت حبط العمل، وضاع السعي، ولذلك قال ﷺ في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه وقال بعضهم: “قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيرة في حال الحياة”، ولذلك روى أنه ﷺ أكرم عجوزاً دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن كرم العهد من الدين فمن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه، وأقاربه، والمتعلقين به، ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه، فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر، إذ لا يدل على قوة الشفقة، والحب؛ إلا تعديهما من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى الكلب الذي على باب داره ينبغي أن يميز في القلب عن سائر الكلاب، ومهما انقطع الوفاء بدوام المحبة شمت به الشيطان، فإنه لا يحسد متعاونين على بر كما يحسد متآخيين في الله، ومتحابين فيه، فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما قال الله – تعالى -: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ (سورة الإسراء:53)، وقال مخبراً عن يوسف: مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (سورة يوسف:100)، ويقال: “ما تآخى اثنان في الله فتفرق بينهما إلا بذنب يرتكبه أحدهما”، وكان بشر يقول: “إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه”، وذلك لأن الإخوان مسلاة للهموم، وعون على الدين، ولذلك قال ابن المبارك: “ألذ الأشياء: مجالسة الإخوان، والانقلاب إلى كفاية، والمودة الدائمة هي التي تكون في الله، وما يكون لغرض يزول بزوال ذلك الغرض”.
واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل من الوفاء المخالفة، فقد كان الشافعي – رحمه الله – آخى محمد بن عبد الحكم، وكان يقربه، ويقبل عليه، ويقول: ما يقيمني بمصر غيره؛ فاعتل محمد فعاده الشافعي – رحمه الله تعالى – فقال:
مرض الحبيب فعدته | فمرضت من حذري عليه |
وأتى الحبيب يعودني | فبرئت من نظـري إليـه |
وظن الناس لصدق مودتهما أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته، فقيل للشافعي في علته التي مات فيها : “إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله؟، فاستشرف له محمد بن عبدالحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه؛ فقال الشافعي: “سبحان الله أيشك في هذا؟ أبو يعقوب البويطي، فانكسر لها محمد، ومال أصحابه إلى البويطي، مع أن محمداً كان قد حمل عنه مذهبه كله، لكن كان البويطي أفضل، وأقرب إلى الزهد والورع، فنصح الشافعي لله، وللمسلمين، وترك المداهنة، ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله – تعالى -، فلما توفي انقلب محمد بن عبد الحكم عن مذهبه، ورجع إلى مذهب أبيه، ودرس كتب مالك – رحمه الله -، وهو من كبار أصحاب مالك – رحمه الله -.8
إذاً فالأخوة في الدين الإسلامي أعلى رباط اجتماعي، ذلك أن الأخوة في الدين ناتجة عن الإيمان العميق به، بحيث يخضع لأوامر ربه دون سواه، ومن ثم تكون هناك عاطفة قوية موحدة تجمع المسلمين جميعاً، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (سورة الحجرات:10). والحب الذي يجمع بين الأخوة في الدين ليس حباً ينصب على الذات، وإنما هو منصب على الإيمان الذي يربط بين المؤمنين، بحيث يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، فالإيمان هو الرباط الدائم بين إخوة الدين، وهو الذي يضبط سلوك المؤمنين، وعاداتهم إذ يقول الله – تعالى -: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ (سورة المجادلة:22)، كذلك يوضح الله نعمته إذ جعل المؤمنين إخواناً يجمعهم الإيمان، وعظم فضل الأخوة التي ارتبطت بفضل الإيمان ارتباطاً وثيقاً يقول تعالى: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (سورة آل عمران:103).
هكذا حرص الإسلام على المؤاخاة بين المسلمين حتى في أكثر الأمور خصوصية مثل: الميراث، إذ كان الميراث في بداية الإسلام بالأخوة في الدين لا في النسب، ولم يكن المسلمون الأوائل يبخلون بمالهم على إخوانهم المسلمين الفقراء الذين عانوا وطأة الاضطهاد بسبب دينهم، ولذلك فإن النبي ﷺ حين رأى مجتمع المدينة ممزقاً حينما هاجر إليه بسبب الخلافات بين الأوس والخزرج من ناحية، وبسبب فقر معظم المهاجرين، وعوزهم من ناحية أخرى؛ طبق مبدأ أخوة الإسلام بحيث يشعر كل مسلم أنه مكفول كفالة تامة فى المجتمع الإسلامي، ويقوم مبدأ المؤاخاة الذي طبقه ﷺ على أساس أن المسلمين جميعاً أخوة، يعطي الغني منهم فقيرهم بالمعروف، ويعين القادر منهم غير القادر، إذ أمرهم الرسول ﷺ بأن يتآخوا في الله اثنين اثنين، أو أخوين أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وزيد بن حارثة (مولى النبي ﷺ ) أخوين، وأبو بكر وخارجة بن زيد الخزرجى أخوين، وهكذا تآخى كل واحد من المهاجرين مع رجل من الأنصار.
كانت المؤاخاة بهذا المفهوم الاقتصادي الاجتماعي درساً في التنظيم الاجتماعي، ولم يكن معناها أبداً أن يركن المهاجرون إلى الدعة، ويتوقفوا عن السعي وراء الرزق، بل كان الهدف ترسيخ قيمة التكافل الاجتماعي بين من يشتركون في أخوة الدين الإسلامى، بحيث يعين المسلم أخاه المسلم في وقت الحاجة الملحة دون تواكل على الغير، ولذلك اشتغل بعض المهاجرين بالتجارة، على حين عمل البعض الآخر في حقول الأنصار ومزارعهم.
ونخلص من هذا كله بأن الأخوة في الإسلام منَّ بها الله على المؤمنين؛ كما أن رسول الله ﷺ طبقها عملياً في المؤاخاة التي قام بها بين المهاجرين والأنصار تثبيتاً لدعائم المجتمع المسلم، وترسيخاً للأسس التي قامت عليها أمة المسلمين.
نسأل الله – تعالى – أن يجعلنا أخوة متحابين فيه، وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
1– المعجم الكبير للطبراني (ج20 / ص 274-1798) وهو في السلسلة الصحيحة للألباني (3273).
2– مسند أحمد (ج39 / ص 432-18621)، وهو حديث صحيح كما في صحيح الترغيب والترهيب للألباني (3021).
3– صحيح مسلم (ج12 / ص 433 – 4655)
4– سنن الترمذي (ج7 / ص 292-1931)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2578).
5– مصنف ابن أبي شيبة – (ج7 / ص 226-70) وصححه الألباني في الإيمان لابن تيمية (ج1 / ص119).
6– سنن أبي داود (ج 12/ ص459-4193) وسنن الترمذي (ج8 / ص383-2300) ومسند أحمد (ج17 / ص107-8065) وقال الألباني: حسن، كما في الصحيحة (927)، وصحيح الجامع (3545).
7– أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود بلفظ: المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن؛ يكف عليه ضيعته، وقال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 6656 في صحيح الجامع.
8– عن إحياء علوم الدين للغزالي .. بتصرف.