حِكَمُ العبادات

حِكَمُ العبادات

حِكَمُ العبادات

الحمد لله على نعمائه، وصلاته وسلامه على خاتم أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأوليائه، اللهم إني أحمدك أرضى الحمد لك، وأحب الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمداً لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده.ٍ

وأسألك المزيد من صلواتك وسلامك على مصدر الفضائل، الذي ظل ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أضاء الطريق للخابط، وهدى الله به القلوب، وأقام به موضحات الأعلام سيدنا محمد بن عبد الله أفضل خلق الله، وأكرمهم عليه، وأعلاهم منزلة عنده، صلى الله عليه وعلى صحابته الأخيار وآله الأبرار. أما بعد:

فإن الله عز وجل شرع العبادات وجعل لها حِكماً عظيمة يدركها العقل وقد لا يدركها، فكل ما شرعه الله حق وحكمة، ونفع للعباد، وإن ظنوا أنه غير ذلك، فالله عليم بخلقه، وما يصلحهم، وحكيم في قضائه وتشريعاته.

فيجب أن يُعلم أن الله تعالى لا يشرع شيئاً إلا وهو متضمن لأحسن الحكم ومحقق لأحسن المصالح، فإن الله تعالى هو العليم، الذي أحاط بكل شيء علماً، الحكيم الذي لا يشرع شيئاً إلا لحكمة.

ودين الإسلام دين مبني -بعد إفراد الله بالعبادة- على الحكمة والخير العميم، ولهذا لم يشرع – سبحانه وتعالى – أحكام هذا الدين دون فوائد مرجوَّة، ومقاصد جليلة، فإنَّ لهذه الشريعة الإسلامية تكاليف سامية المقاصد، نبيلة الفوائد، بديعة الأسرار. ومن المعلوم أنََّ من أسمائه -سبحانه وتعالى-: الحكيم، ومقتضى هذا الاسم أنَّه متَّصفٌ بالحكمة، فكلُّ ما شرعه الله وقدَّره وأمر به فهو لحكمة بالغة.

فهو – سبحانه – لم يكلِّفنا بالعبادات لأجل الإشقاق علينا، أو لنكون قائمين بتطبيقها فحسب، أو لحاجته – تعالى – لنا، كيف وهو يقول:  {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء}(38) سورة محمد، بل شرعها – تعالى – لمصلحتنا وتربيتنا، لتكون هذه العبادات زاداً لنا على طريق الهدى، وفي هذا يقول الإمام البيضاوي -رحمه الله-:" إنَّ الاستقراء دلَّ على أنَّ الله – سبحانه – شرع أحكامه لمصالح العباد"1 

وتلك الحكم والمعاني السامقة لا تفهم إلاَّ بالبحث والاستقراء والتتبع؛ لما يسمِّيه علماء الإسلام بـ: (فقه المقاصد الشرعية)، ومن المتيقَّن أنَّ الأحكام إذا ربطت بعللها ومقاصدها اقتنع الناس بها، وكان لها دورٌ كبير في تأديتها على الوجه اللاَّئق بها؛ فإنَّ كثيراً من الناس يلتزمون العبادات، بيدَ أنَّهم قد يفقدون روحها ومعانيها، ولعلَّ من أسباب ذلك ضعف علمهم بمقاصدها؛ فيؤدُّون عباداتهم وكأنَّها عادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم؛ فلا يشعرون بلذَّتها وحلاوتها، ولا يستفيدون من القيام بها على الوجه المطلوب.

وكيف لا يكون للعبادة حِكَماً وهي الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(56) سورة الذاريات، ولأجل تحقيق هذه الغاية واقعاً في حياة الناس بعث اللهُ الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}(36) سورة النحل، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(25) سورة الأنبياء، وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له)2 وبالعبادة وصف الله ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}(19) سورة الأنبياء وذم المستكبرين عنها بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(60) سورة غافر، ونعت أهل جنته بالعبودية له، فقال سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}(6) سورة الإنسان ونعت نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – بالعبودية له في أكمل أحواله، فقال في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}(1) سورة الإسراء، وقال في مقام الإيحاء: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}(10) سورة النجم، وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}(19) سورة الجن، وقال في التحدي: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(23) سورة البقرة.

فالدين كله داخل في العبادة، وهي أشرف المقامات وأعلاها، وبها نجاة العبد ورفعته في الدنيا والآخرة.

ولعبادة الله أعظم الأثر في صلاح الفرد والمجتمع والكون كله، فأما أثر العبادة على الكون وعلى البشرية عامة فهي سبب نظام الكون وصلاحه، وسبيل سعادة الإنسان ورفعته في الدنيا والآخرة، وكلما كان الناس أقرب إلى العبادة كان الكون أقرب إلى الصلاح، والعكس بالعكس، فإن انهمكوا في المعاصي والسيئات وتركوا الواجبات والطاعات كان ذلك مؤذناً بخراب الكون وزواله، ومن تأمل كيف أن القيامة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وحين لا يقال في الكون كله " الله الله " علم صحة ما ذكرنا.

والعبادة هي الزمام الذي يكبح جماح النفس البشرية أن تلغ في شهواتها، وهي السبيل الذي يحجز البشرية عن التمرد على شرع الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}(45) سورة العنكبوت. فالعبادة ضمانة أخرى من أن تنحرف البشرية في مهاوي الردى، وطرق الضلال.

والعبادة سبب للرخاء الاقتصادي واستنزال رحمات الله وبركاته على البلاد والعباد، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(96) سورة الأعراف.

هذا فيما يتعلق بآثار العبادة على الكون كله وعلى البشرية جمعاء، أما آثارها فيما يتعلق بالفرد فيمكن إيجاز ذلك في أمور:

الأمر الأول: طمأنينة القلب وراحته ورضاه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(28) سورة الرعد.

الأمر الثاني: نور الوجه، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}(29) سورة الفتح، وقال عن الكافرين: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (27) سورة.

الأمر الثالث: سعة الرزق والبركة فيه، ويدل على ذلك قصة أصحاب الجنة الذين بارك الله لهم في جنتهم في حياة والدهم بطاعته ورحمته بالفقراء، حتى إذا مات وورثوا الأرض من بعده عزموا على حرمان الفقراء، فأرسل الله على جنتهم صاعقة فجعلتها كالصريم محترقة سوداء كالليل البهيم، قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}(17) سورة القلم.

ومن تلك الحكم والمقاصد أيضاً:

ـ تحقيق التقوى بعبودية الله ـ عزَّ وجل ـ: وذلك لأن العبادات يتقرب بها العبد لربِّه بترك محبوباته، وقمع شهواته، فيضبط نفسه بالتقوى ومراقبة الله – سبحانه وتعالى – في كل مكان وزمان.

ـ تزكية النفس: من مقاصد العبادات الجليلة أنَّّ فيها تزكية للنفس وتنقية لها من الأخلاق الرذيلة.

ولا يخفى أن للعبادة روحاً ولباً وعلاقة تواصل بين العبد وربه سبحانه، فإذا اقتصرت العبادة على الحركات، وتخلف عنها لبها وجوهرها من الخشوع والخضوع لله والذل والانكسار بين يديه، كان العبد مؤدياً لصورة العبادة لا لحقيقتها، فشرود القلب وغفلته في أدائه للعبادة من أعظم الآفات التي تؤدي لعدم قبول العمل.

فليعلم إذاً أن تزكية الأنفس وإصلاحها من مقاصد العبادات. فالنفوس المزكاة منابع للخير ومحاسن الآداب. والكلام عن مقاصد العبادات في الإسلام مهم؛ لسببين:

الأول: حتى يعلم غير المسلمين أن كل العبادات في الإسلام لها أثر على حياة المسلمين، وبذلك يفهمون مكانة العبادات في الإسلام.

والثاني: أن هناك بعض العبادات ربما كانت مثار جدل إذا ما نوقشت من زاوية المغزى والهدف المنشود من ورائها، خاصة وأن العقلية الغربية جبلت على مناقشة كل شيء، فلذلك ينبغي أن يتضح هذا في بداية الأمر. فأما عن مقاصد العبادات في الإسلام فهي عديدة، فالشريعة – كما قال ابن القيم في "إعلام الموقعين"-: "مبناها وأساسها الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها"3.

وقد ألمح القرآن الكريم إلى هذه المقاصد بصورة مجملةٍ ضمن سياق الحج في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * ليشهدوا منافع لهم…}(27) سورة الحـج، وهذه الآية صريحة في اشتمال الحج على منافع للناس، وحمل المنافع المشار إليها في الآية الكريمة على منفعتي الدنيا والآخرة معاً أكثر وجاهة، خاصة وأن تنكير المنافع في الآية يدل على عمومها وكثرتها.

والمقصود الأول للعبادات في الإسلام إصلاح الإنسان وتهذيبه وتربيته، ويفضل هنا أن تسوق بعض الأمثلة على ذلك:

– ففي الصيام قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(183) سورة البقرة.

– وقال عن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}(45) سورة العنكبوت.

– وقال عن نحر الأضاحي في الحج: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}(37) سورة الحـج.

ثم بعد ذلك توضح أن هذا هو المقصود الأسمى للعبادات في الإسلام، وأما تفاصيل كل عبادة والحكمة من ورائها فهذا مما لا يدركه العقل البشري لقصوره، ولكننا نتعبد بطاعتنا لله. ولعل في تقبيل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – للحجر الأسود في الحج، ومقولته المشهورة: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبلك ما قبلتك" مثال صريح على ذلك. ويقول علماء الأصول: بأن المصالح والمفاسد، تقع في مجموعة علل الأحكام، مثلا يقول القرآن في آية: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ} وفي آية أخرى يذكر فلسفتها {إن الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت/45). فذكر الأثر الروحي للصلاة، وأنها كيف ترفع الإنسان، وبسبب هذا الاعتلاء ينزجر الإنسان وينصرف عن الفواحش والآثام.

وعندما يذكر القرآن الصوم ويأمر به، يتبع ذلك بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة/183) وهكذا في سائر الأحكام، مثل الزكاة والجهاد وغيرها، حيث يوضح في كل منها من الناحيتين الفردية والاجتماعية. ونظراً لأهمية علم المقاصد يقول الغزالي" المصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق خمسة أن يحفظ عليهم: دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم".

والمراد هنا مصالح العباد سواء كان ذلك في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معا وسواء كان ذلك بجلب مصلحة أو دفع مفسدة، فمقاصد الشارع هي تحقيق المصالح ودفع المفاسد التي وضعت الشريعة من أجل تحقيقها. والتي علم مراعاتها من قبل الشارع في جميع ما ورد عنه من أحكام مثل حفظ الضروريات الخمس ومثل رعاية الشارع لرفع الحرج ورعاية المصالح وإقامة العدل بين الناس، فالمقصد العام للشريعة هو: عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير منافع الجميع.

وإقامة المساواة بين الناس وجعل الشريعة مهابة ومطاعة ونافذة وجعل الأمة مرهوبة الجانب مطمئنة البال. ويدخل في هذا مقاصد الشارع في كل حكم من الأحكام على انفراد نحو معرفة مقصد الشارع من الوضوء أو الصلاة أو الحج. يقول عبد الحليم أبو شقة: "إن معرفة علل الأحكام تعين المسلم على فهم الأحكام فهماً صحيحاً وتعين على تطبيقها تطبيقاً علمياً سليماً". ويقول العز ابن عبد السلام: "ويعبر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر والنفع والضر والحسنات والسيئات، لأن المصالح كلها خيور نافعات والمفاسد كلها شرور مضرات سيئات". وفي هذا الإطار يتبين أن أحكام الشريعة معقولة المعنى وقد اشتملت على مصالح العباد وبنيت على أساس تحقيق تلك المصالح ولا بد من البحث عن علل والأحكام والمصالح التي شرعت من أجلها.

وحسبنا الإجماع المنعقد على أن المقصد الأعم للشريعة هو جلب المصالح ودرء المفاسد، يقول ابن القيم مؤكدا هذا المعنى: "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل ما خرج عن العدل إلى الجور ومن المصلحة إلى عكسها فليس من الله في شيء، وحيثما ظهرت دلائل العدل واستقر وجهه فثم شرع الله وأمره"4.

يقول الشاطبي مؤصلاً لهذا الأصل: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً والمجتهد عليه ألا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل"5.

هذا وإن من الواضح أن سؤالنا عن العلل لابد وأن يكون من باب طلب زيادة العلم والمعرفة، لا من باب كون وضوح العلة طريقاً للإيمان والاعتقاد، فنحن نؤمن بالأحكام ونطبقها سواءً عرفنا عللها العلمية أم لم نعرفها، فنحن نتعبّد بأحكام الله وشرائعه بغض النظر عن معرفة العلل والأسباب الكامنة وراء تشريعها.  مع أن معرفة العلة والسبب العلمي للأحكام والسنن الإلهية عمل حسن وجيد، لكن عدم معرفتنا بسبب الوجوب أو التحريم مثلاً، يجب أن لا يؤثر سلباً على طاعتنا للشريعة الإسلامية مادمنا نؤمن بصدقها وصدق الرسول الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم- فنحن متعبدون بكل الأحكام سوءً عرفنا علل تشريعها أم لم نعرف عنها شيئاً، و سواءً أيّدها العلم الحديث أم لم يؤيدها، ما دمنا نؤمن بحكمة مشرِّعها و منزِّلها العالِم الحكيم.

إذاً علينا أن نقرَّ بوجوب التسليم للنصوص الشرعية، سواءٌ أدركت الحكمة أو لم تُدرك، وأن نعلم أنَّ تلك العبادات شرف لنا، ورفعة لمقامنا عند ربِّنا، بل إنَّ من تمام حرِّيتنا لله كمال عبوديتنا له سبحانه، وقد أحسن القاضي عياض حين قال:

وممّا زادني شرفاً وتـيهـاً   ***  وكدت بأخمصي أطأ الثريَّا

دخولي تحت قولك يا عبادي ***  وأن صيَّرت أحمد لي نبـياً

والخلاصة: أن الشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح, فإذا سمعت الله يقول:{يا أيها الذين آمنوا} ; فتأمل وصيته بعد ندائه, فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه أو شراً يزجرك عنه, أو جمعاً بين الحث والزجر, وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثاً على إتيان المصالح.

هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.*


 


1 – (المنهاج:صـ233).

2 –  مسند أحمد – (ج 10 / ص 405)  4869وصححه الألباني في  تخريج مشكلة الفقر – (ج 1 / ص 25)

3 –  إعلام الموقعين عن رب العالمين – (ج 3 / ص 149)

4 – فتاوى إمام المفتين  جزء 1 –  صفحة 175

5 – الموافقات   جزء 4 –  صفحة 194 

* بالاستفادة من  http://www.isslah.net/modules/news/article.php?storyid=3100

http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?lang=A&id=13426