الغربة والغرباء
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، والصلاة والسلام على رسول الله الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واتبع ملته إلى يوم النشور، أما بعد:
فإن المؤمنين بالله ورسله، المتمسكين بسنة رسول الله ﷺ في كل زمان ومكان؛ غرباء بين أقوامهم، وهم في هذا الزمان أشد غربة وعزلة، وقد قال الله في كتابه العظيم: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ (سورة هود:116) والاستشهاد بهذه الآية على الغربة والغرباء يظهر من أن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي ﷺ في قوله: بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس1، وروى الإمام أحمد عن المطلب بن حنطب عن النبي ﷺ قال: طوبى للغرباء قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يزيدون إذا نقص الناس2، وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النزاع من القبائل3، وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قال النبي ﷺ ذات يوم ونحن عنده: طوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم4، وورد بعض صفاتهم في حديث ضعيف ضعفه الألباني وهو حديث عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي ﷺ قال: إن أحب شيء إلى الله الغرباء قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى ابن مريم يوم القيامة5. وقال نافع عن مالك: دخل عمر بن الخطاب المسجد فوجد معاذ بن جبل جالساً إلى بيت النبي ﷺ وهو يبكي، فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن هلك أخوك! قال: لا، ولكن حديثاً حدثنيه حبيبي وأنا في هذا المسجد، فقال: ما هو؟ قال: إن الله يحب الأخفياء الأحفياء، الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة6 فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ (سورة الأنعام:116) فأولئك هم الغرباء من الله ، ورسوله ﷺ، ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم كما قيل:
فليس غريباً من تناءت دياره | ولكن من تنأين عنه غريب |
فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله ﷺ بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله ﷺ أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريباً، وأنه سيعود غريباً كما بدأ، وأن أهله يصيرون غرباء، وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ﷺ ، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده. فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله ﷺ والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفوه، ومن هؤلاء الغرباء من ذكرهم أنس في حديثه عن النبي ﷺ: رب أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له؛ لو أقسم على الله لأبره7، وقال الحسن: “المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب”.
ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي ﷺ: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله ﷺ بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم. ومعنى قول النبي ﷺ: هم النزاع من القبائل أن الله سبحانه بعث رسوله ﷺ وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين يهود، وعباد صور، وصلبان، وصابئة، وفلاسفة، وعباد أوثان ونيران، وكان الإسلام في أول ظهوره غريباً، وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله ﷺ غريباً في حيه، وقبيلته، وأهله، وعشيرته، فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعاً من القبائل، بل آحاداً منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباء حقاً حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجاً، فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل حتى عاد غريباً كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جداً، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس.
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورئاسات، ومناصب وولايات، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول ﷺ! فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم! فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريباً بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شحهم، وأعجب كل منهم برأيه كما قال النبي ﷺ: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر؛ حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يد لك به؛ فعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، فإن وراءكم أياماً صبر الصابر فيهن كالقابض على الجمر8، ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه أجر خمسين من الصحابة قال ﷺ: إن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم9، وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس، والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم.
فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله، وفهماً في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه؛ فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله، فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم، وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله ﷺ بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف.10
1 رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
2 هكذا ذكره ابن القيم في مدارج السالكين، ولم نعثر عليه بهذا اللفظ لا في مسند أحمد ولا غيره والله أعلم.
3 رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما، وصححه غير واحد.
4 رواه أحمد والطبراني، وقال الأرناؤوط: حسن لغيره، وقد صححه الألباني بهذا اللفظ.
5 ضعفه الألباني بهذا اللفظ في السلسلة الضعيفة (1859).
6 رواه ابن ماجه والحاكم والطبراني، وقد ضعفه الألباني في مواضع عدة من كتبه.
7 رواه أحمد والترمذي وغيرهما وهو حديث صحيح.
8 رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وضعفه الألباني وقال: ضعيف لكن فقرة أيام الصبر ثابتة.
9 رواه الطبراني وغيره وهو حديث صحيح.
10 – من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في (مدارج السالكين) (3/ 195-200) بتصرف.