عشر ذي الحجة.. فضائل وأحكام

عشر ذي الحجة

 

عشر ذي الحجة.. فضائل وأحكام

 

الحمد لله الذي بنى الكون فأحكمه، وخلق الإنسان وألهمه، واختار من بني الإنسان رسلاً منهم من كلمه، واختار عبده ورسوله نبينا محمداً فأكرمه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن عظمه,, أما بعد:

فإن من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن فاضل بين الأزمنة، فاصطفى واجتبى منها ما شاء بحكمته، قال-عز وجل-: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (68) سورة القصص. وذلك التفضيل من فضله وإحسانه؛ ليكون عوناً للمسلم على تجديد النشاط، وزيادة الأجر والقرب من الله تعالى, ونظرة في واقع الكثير تنبئك عن جهل كبير بفضائل الأوقات، ومن أكبر الأدلة على ذلك: الغفلة عن اغتنامها، مما يؤدي إلى الحرمان من الأجر.

 

والأمر الذي يحتاج إلى وقفة تأمل: التباين الكبير بين كون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل فيما سواها، وبين واقع الناس وحالهم في تلك العشر، فالكثير لا يحرك ساكناً، والأكثر لم يقم الأمر عنده ولم يقعد، ومن مظاهر ذلك مثلاً هجر سُنّة التكبير المطلق وهي من شعائر تلك الأيام, وعلى الرغم من أن هذه الأيام أعظم من أيام رمضان، والعمل فيها أفضل إلا أنه لا يحصل فيها ولو شيء مما يحصل في رمضان من النشاط في عمل الآخرة، ولا عجب؛ فالفارق بين الزمنين واضح، فقد اختص رمضان بما لم تختص به العشر، ومن ذلك: وقوع فريضة الصوم فيه, وهي فريضة العام على كل مسلم، مع ما يكون فيها من تربية للمسلم، وزيادة لإيمانه، بخلاف الحج فهو فريضة العمر ولارتباط رمضان بنزول القرآن فيه مما جعله شهر القرآن، وذلك له أثر كبير في إقبال الناس فيه على كتاب الله الكريم, والترغيب الخاص بقيام لياليه، وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام العشر، وتحري ليلة القدر, فهذه الأمور الثلاثة جعلت لرمضان جوّاً خاصًًا متميزاً تنقلب حياة النّاس فيه، وتتغير أيًّا كان نوع ذلك التغير.كل ذلك وغيره يجعل هذه العشر ابتلاءً وامتحاناً للناس، فلا يحصل فيها من المعونة على الخير كما يحصل في رمضان، والموفق من وفقه الله، فشمر وجد واجتهد.

 

ولقد دل على فضل عشر ذي الحجة أمور:

الأول: قول الله تعالى: وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) سورة الفجر. قال غير واحد: إنها عشر ذي الحجة، وهو الصحيح.

ومما يدل على فضلها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد أنها أعظم أيام الدنيا، وجاء ذلك في أحاديث كثيرة منها: قوله –عليه الصلاة والسلام- (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ), قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)1.

وحيث ثبتت فضيلة الزمان ثبتت فضيلة العمل فيه، وأيضاً فقد جاء النص على محبة الله للعمل في العشر، فيكون أفضل، فتثبت فضيلة العمل من وجهين.

 

العمل فيها متنوع ينبغي لك أيها المسلم أن تحرص على أن يكون لك منه نصيب قبل الممات, ومما يشرع فيها أولاً التوبة النصوح, وهي الرجوع إلى الله تعالى فتقلع عما يكرهه ظاهراً وباطناً وتؤوب إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ندماً على ما مضى، وتركاً في الحال، وعزماً على ألا تعـود. وما تتوب منه يشمل: ترك الواجبات، وفعل المحرمات, ومن ذلك المحافظة على الواجبات, والمقصود أداؤها في أوقاتها وإحسانها بإتمامها على الصفة الشرعية الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ومراعاة سننها وآدابها, وهي أول ما ينشغل به العبد في حياته كلها؛  فالمحافظة على الواجبات صفة من الصفات التي امتدح الله بها عباده المؤمنين، قال -عز وجل-: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) سورة المعارج. ومن ذلك: الإكثار من الأعمال الصالحة؛ فإن العمل الصالح محبوب لله تعالى في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه الأيام المباركة، وهذا يعني فضل العمل فيها، وعظم ثوابه، فمن لم يمكنه الحج فعليه أن يعمر وقته في هذه العشر بطاعة الله تعالى، من الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام, والأمر المعروف والنهي عن المنكر … وغير ذلك من طرق الخير, وهذا من أعظم الأسباب لجلب محبة الله تعالى.

 

ومن العبادات التي تتميز به هذه الأيام: ذكر الله تعالى؛ حيث له مزية على غيره من الأعمال؛ للنص عليه في قوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ (28) سورة الحـج.

أي أيام العشر يحمدونه ويشكرونه فيها على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ومن الذكر التكبير حيث يسن إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق، وغيرها بحيث يجهر به الرجال، وتسر به النساء؛ إعلاناً بتعظيم الله تعالى, وهناك صيغ وصفات عديدة واردة عن الصحابة والتابعين.

 

عباد الله:

 إن التكبير صار عند بعض الناس من السنن المهجورة، وهي فرصة لكسب الأجر بإحياء هذه السنة، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ)2.

وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة –رضي الله عنهم – كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، والمراد من ذلك تذكير الناس التكبير، فيكبرون بسبب تكبيرهما، والله أعلم.

وباب ذكر الله واسع غير محصور فلا ينبغي التفريط فيه وإهماله في مثل هذا الموسم العظيم موسم الأكل والشرب وذكر الله تعالى كما بين ذلك الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم.

 

 وإن من خصوصيات هذه الأيام  المباركة –أيها الإخوة المؤمنون- الأضحية : فهي سنة مؤكدة في حق الموسر، بل قال بعضهم -كابن تيمية وغيره- بوجوبها, وقد أمر الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) سورة الكوثر. فيدخل في الآية صلاة العيد، ونحر الأضاحي، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحافظ عليها والله يقول سبحانه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (31) سورة آل عمران. ويقول –جل وعلا-: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (7) سورة الحشر. فليكن قدوتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفوز برضا الله جل وعلا.

 

 عباد الله:

أكثروا من الذكر والدعاء في هذه الأيام الفاضلة فعن ذكر يوم عرفة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)3.

قال ابن عبد البر: "وفي الحديث دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وأن أفضل الذكر: لا إله إلا الله).

قال الخطابي: (معناه: أكثر ما أفتتح به دعائي وأقدمه أمامه من ثنائي على الله -عز وجل- وذلك أن الداعي يفتتح دعاءه بالثناء على الله -سبحانه وتعالى- ويقدمه أمام مسألته، فسمي الثناء دعاء.

 

ومن الذكر المشروع لك –أخي المسلم- في هذه الأيام المباركة التكبير وقد علم في وظائف العشر أن التكبير فيها مستحب كل وقت، في كل مكان يجوز فيه ذكر الله تعالى, وكلام العلماء فيه يدل على أن التكبير نوعان:

الأول: التكبير المطلق وهو المشروع في كل وقت من ليل أو نهار، ويبدأ بدخول شهر ذي الحجة، ويستمر إلى آخر أيام التشريق, والثاني: التكبير المقيد وهو الذي يكون عقب الصلوات، والمختار أنه عقب كل صلاة ، أيًّا كانت، وأنه يبدأ من صبح عرفة إلى آخر أيام التشريق, وخلاصة القول: أن التكبير يوم عرفة والعيد، وأيام التشريق يشرع في كل  وقت وهو المطلق، ويشرع عقب كل صلاة وهو المقيد. ومن الأيام الفاضلة في هذا الموسم العظيم يوم النحر حيث أن لهذا اليوم فضائل عديدة فهو يوم الحج الأكبر وهو أفضل أيام العام؛ لحديث: (إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)4. فهو بذلك أفضل من عيد الفطر؛ ولكونه يجتمع فيه الصلاة والنحر، ولقد اعتبرت الأعياد في الشعوب والأمم أيام لذة وانطلاق، وتحلل وإسراف، ولكن الإسلام صبغ العيدين بصبغة العبادة والخشوع إلى جانب الفسحة واللهو  المباح. وقد شرع في يوم النحر من الأعمال العظيمة كالصلاة، والتكبير ونحر الهدي والأضاحي، وبعض من مناسك الحج ما يجعله موسماً مباركاً للتقرب إلى الله تعالى، وطلب مرضاته، لا كما هو حال الكثير ممن جعله يوم لهو ولعب فحسب، إن لم يجعله يوم أشر وبطر، والعياذ بالله.

اللهم اهدنا ووفقنا وسددنا, واغفر لنا وارحمنا, إنك أنت الغفور الرحيم.


 


1 رواه البخاري -916- (4/34) واللفظ لأبي داود -2082- (6/419) والترمذي -688- (3/224) وبهذا اللفظ صححه الألباني في كل من: سنن أبي داود -2438- (5/ 438) وسنن الترمذي – 757- (2/257).

2 رواه مسلم -1691- (5/198).

3 رواه الترمذي -3509- (ج 12 / ص 8) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح -2598- (2/84).

4 رواه أبو داود -1502- (5/94) وأحمد -18292- (39/83) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1944).