صفة الحـج

صفة الحـج

صفة الحـج

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده… أما بعد:

فإن الواجب على المسلم أن يعبد الله على علم وبصيرة، لا يعبده على جهل وضلال، يجب عليه التعرف والسؤال عن أحكام دين الإسلام مما هو معلوم من الدين بالضرورة مما يجب عليه تعلمه ومعرفته والعمل به، ويعمل بذلك مخلصاً العبادة لله رب العالمين؛ لأن الله -عز وجل- لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً له سبحانه وصواباً على سنة رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم. ومما يؤسف له في هذا الزمن الذي كثر فيه العلم الدنيوي والديني –أيضاً- أن نجد التطبيق العملي لبعض شعائر الإسلام من الصعوبة بمكان لدى كثير من المسلمين، وأكبر دليل على ذلك تلك الأخطاء والإشكالات التي تقع في مناسك الحج لكثير من الحجاج الذين لو اتبعوا المنهج القويم وسلكوا الطريق المشروع لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولما صعب عليهم أداء ذلك النسك وتلك العبادة المفروضة على من دخل فيها وعلى المستطيع إليها سبيلاً.

 

إذاً فالحج عبادة مفروضة كأي عبادة أخرى يجب على المسلم أن يتعلمها قبل الشروع والدخول فيها، وهي في غاية اليسر والسهولة، فعلى المسلمين أن يعرفوا ويتعلموا أحكام الحج الذي هو أحد أركان الإسلام الخمسة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أداؤها مع الاستطاعة، وحتى يقوموا بأدائه على أكمل وجه وأفضله بإذن الله -عز وجل- فعليهم أن يعلموا ذلك ابتداءً ليسيروا على علم وبصيرة، وبذلك يكونون قد أراحوا أنفسهم، وأراحوا غيرهم، وعلموا معنى قول الله -عز وجل -في آخر سورة الحج: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (78) سـورة الحـج. فعلى المسلم أن يتعلم ذلك وغيره، ومتى لم يعلم أي أمرٍ من أمور دينه فعليه أن يسأل أهل العلم امتثالاً لقول الله -عز وجل-: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) سورة النحل. ولقول رسول الله  في الحج عند كل منسك: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)1. وسنورد هنا بعضاً من أعمال الحج من البداية حتى النهاية ملخّصة مستقاة من كتب أهل العلم فنقول:

 

إذا عزم المسلم على السفر للحج يستحب له أن يوصي أهله وأصحابه وأقاربه ومن يودعه من المسلمين بتقوى الله -عز وجل- كما هي الوصية بالتقوى أيضاً لنفسه في أي مكان وزمان، وهي وصية الله للأولين والآخرين بفعل الأوامر وترك النواهي واجتنابها، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) سورة النساء.

ويجب عليه أن يكتب ما عليه من الدين وما له، ويُشهِد على ذلك إذا كان الدين لم يحلّ موعده أو حلّ وسمح له صاحب الدين بالتأجيل، والسماح المقصود هنا والذي يتعلّق به كثير من الناس حسب مفهومهم هو للديْن الذي حلّ موعده أو قرب وليس له مال يسدّد منه صاحب الدين، أو أن نفقة الحج كثيرة على الحاج لا يطيق بعدها أو معها سداد الدين، فهذه الأحوال هي التي لا بدّ أن يتم استئذان صاحب الدين، أما إذا كانت نفقة الحج قليلة، أو أن المدين لديه أموال سوف تسدد منها الديون، أو أنه لم يأت موعد سداد الدين إلا بعد أشهر أو سنوات، فهذا لا يمنع أي مسلم من أداء الحج، كما اتخذ ذلك كثير من المسلمين حجة لعدم تأديتهم الحج، لدرجة أن بعضهم بلغ الستين والسبعين من عمره وهو لم يحج مع الاستطاعة وهو قريب من مكة المكرمة، بحجة الدين القليل الذي عليه، مع أنه يسافر الأسفار الطويلة والبعيدة، ويصرف فيها أضعاف ما يصرف في الحج، ولا يسأل عن ذلك، ولا يحتجّ بالدين الذي عليه، ولا يستأذن صاحب الدين كما يدّعي ويزعم! والمقصود بالدين في الحج والجهاد في سبيل الله وغيرهما هو الاهتمام بأمر الدين وقضائه؛ لأن الميت يبقى معلقًا به حتى يُقضى عنه، والشهيد يغفر له عند أول قطرة تُهْرَاق من دمه كل شيء من الذنوب إلا الدين، وليس المقصود عدم جواز حج من كان عليه دين، بل هو لتعظيم شأن الدين ووجوب المبادرة بقضائه والوفاء به وتقديمه على فريضة الحج في الأداء والقضاء.

 

ونعود للقول بأن على الحاج المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب واختيار الرفقة الصالحة، وكذلك اختيار النفقة الطيبة من المال الحلال للحج أو العمرة كما هو الحال في حياته كلها، لما صحّ عن الرسول محمد  صلى الله عليه وسلم في قوله: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)2. والحج المبرور جزاؤه الجنة كما جاء ذلك على لسان رسول الله  حيث قال : (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)3.

 

وإذا وصل الحاج إلى الميقات يُسنّ له قبل الإحرام الأخذ من شاربه وقَلْم أظفاره وحلق عانته ونتف إبطيه والاغتسال والتطيب، وإن فعل ذلك في منزله -وخاصة مَنْ منزله قريب من الميقات- فلا بأس، لئلا يعطّل رفقته، أو لقرب الوقت كالمسافر في الطائرة، أو الذي لا يسير ليالي وأيامًا حتى يصل الميقات، ثم يلبس الرجل إزارًا ورداءً أبيضين نظيفين بعد أن يتجرد من المخيط.

 

والمخيط هو ما يُخاط للبدن أو بعضه كالفنيلة والسروال والثوب وما شابه ذلك، وليس من المخيط الحزام والساعة والحذاء التي فيها خيوط، فليس هذا هو المقصود والمنهي عنه، بل هو الأول.

أما المرأة فتلبس المخيط، وتحرم فيما شاءت من الثياب السوداء أو الحمراء أو الخضراء أو غيرها بعيدة عن الزينة وفتنة الرجال، ودون التشبه بالرجال في اللباس الأبيض أو الأخضر كما هو الحال فيمن يتقيّدن بلباس معيّن لهن في الإحرام كما تفعله بعض النساء ويقرّهن على ذلك الرجال.

 

والحاج مخيّر بين أنواع النسك الثلاثة: الإفراد أو التمتع أو القران، ويجب على الحاج أن ينوي الدخول في النسك الذي يريده ويحدده من عمرة أو حج، ويشرع له التلفظ بما ينوي، فإن كانت نيته الحج قال: لبيك حجًا، أو اللهم لبيك حجًا، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وإن كانت نيته العمرة قال: لبيك عمرة، أو اللهم لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك… إلى نهاية التلبية. وله أن يشترط في حجه أو عمرته، خاصة من كان له عذر كالمريض أو الخائف من الحصر وعدم إكمال نسك الحج أو العمرة، وذلك بقوله بعد التلبية: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني؛ فبهذا الاشتراط إن حصل له ما يعوقه عن إتمام النسك يجوز له التحلل.

ولا يجوز للمحرم بعد نية الإحرام من الميقات أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظفاره، ولا يمسّ طيباً ولا يلبس مخيطاً بالنسبة للرجال، ومن الواجب عليه أن يترك الرفث والفسوق والجدال في الحج؛ امتثالاً لقول الله -جل جلاله-: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ (197) سورة البقرة. ولقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)4. وينبغي الإكثار من التلبية في الطريق إلى مكة، فإذا وصل المسجد الحرام ورأى الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف، ويضطبع الرجل أي: يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وهذا هو المشروع في الاضطباع من حين يرى الكعبة حتى ينتهي من الطواف فقط، وعندما يريد أداء ركعتي الطواف فعليه أن يعيد الرداء على كتفيه ويسترهما في الصلاة، وليس كما يفعله معظم المسلمين من الاضطباع وإبداء الكتف الأيمن من حين لبس ملابس الإحرام حتى الانتهاء من أعمال العمرة أو الحج وعدم ستر الكتف الأيمن حتى في الصلاة فهذا خلاف المشروع.

 

ثم يطوف بالبيت ابتداءً من الحجر الأسود أو ما يوازيه من المسجد وانتهاءً بنفس المكان من كل شوط سبعة أشواط، يرمل الرجل في الثلاثة الأولى إن تيسر له ذلك، ويمشي في الأربعة الباقية، ويدعو الله بما شاء، إلا أنه بين الركن اليماني والحجر الأسود يُشرع له أن يقول عند نهاية كل شوط: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) سورة البقرة. فإذا فرغ من الطواف أعاد الرداء على كتفيه، ثم يصلي ركعتين خلف المقام أو في أي ناحية من المسجد الحرام لا سيما في الزحام، وتبتعد المرأة عن الرجال والاختلاط بهم خاصة في الصلاة، ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـ(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وفي الثانية بعد الفاتحة بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، ويدعو بما تيسر له من الدعاء النافع سواء بعد صلاة الركعتين أو بعد الشرب من ماء زمزم والتضلع منه. ثم يخرج إلى الصفا من بابه، ويرقى عليه، ويستقبل القبلة، ويوحّد الله ويثني عليه ثلاث مرات، هذا هو الأفضل، ويدعو بما شاء، ثم ينحدر إلى المروة ويفعل كما فعل على الصفا، ومن السنة أن يسرع الرجل في المشي الإسراع المسمى بالخَبَب فيما بين العلمين الأخضرين في الأشواط السبعة كلها، وأما المرأة فلا يشرع لها الإسراع لأنها عورة، وإنما المشروع لها المشي العادي في السعي وكذلك الطواف، وبعد السعي يقصّر أو يحلق، وبذلك تتم عمرته إن كان متمتعاً، والتقصير هنا أولى إذا كان قريباً من الحج؛ ليترك الحلق للحج حتى يتوفر شعره. أما المرأة فتأخذ قدر أنملة من طرف شعرها في هذا أو غيره من حج أو عمرة مفردة بسفر خاص، وهذا الحلق أو التقصير في الحج للمتمتع، وإن كان الحاج مفردًا أو قارناً فلا يحلق ولا يقصّر، بل يبقى على إحرامه حتى يتم أعمال يوم النحر، وإن كان المشروع للمفرد أن يجعلها عمرة حتى يكون متمتعًا وكذلك القارن إذا لم يَسُقِ الهدي معه. وإذا أراد المفرد والقارن تقديم سعي الحج بعد الطواف الأول للقدوم فلا بأس، وإلا فلا سعي عليهما بعد طواف القدوم إلا بعد طواف الإفاضة فيسعيان سعي الحج إذا لم يقدّماه.

 

وفي اليوم الثامن يُهلّ بالحج من كان متمتعاً؛ لأنه قد حلّ من إحرامه، أما من كان قارناً أو مفرداً فإنه باقٍ على إحرامه بالحج ولم يحلّ منه، ثم يتّجه الحاج إلى منى ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر اليوم التاسع كل صلاة في وقتها، يقصر الرباعية فقط الظهر والعصر والعشاء5.

 

ويفعل عند إحرامه بالحج كما فعل عند إحرامه بالعمرة من الغسل والطيب والصلاة، فينوي الإحرام بالحج ويلبي، وصفة التلبية في الحج كصفة التلبية في العمرة إلا أنه يقول هنا: لبيك حجاً بدل قوله لبيك عمرة. وإن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام حجه اشترط فقال: "وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" وإن لم يكن خائفاً لم يشترط.

ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر بمنى ولا يجمع، والقصر كما هو معلوم جعل الصلاة الرباعية ركعتين، ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالناس في حجة الوداع ومعه أهل مكة ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح.فإذا طلعت الشمس يوم عرفة سار من منى إلى عرفة فنزل بنمرة إلى الزوال إن تيسر له وإلا فلا حرج؛ لأن النزول بنمرة سنة.

 

فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر على ركعتين يجمع بينهما جمع تقديم كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليطول وقت الوقوف والدعاء. ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله -عز وجل- ويدعو بما أحب رافعاً يديه مستقبلاً القبلة ولو كان الجبل خلفه؛ لأن السنة استقبال القبلة لا الجبل، وقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الجبل وقال: (وَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ)6.وكان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموقف العظيم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). فإن حصل له ملل وأراد أن يستجم بالتحدث مع أصحابه بالأحاديث النافعة أو قراءة ما تيسر من الكتب المفيدة خصوصاً فيما يتعلق بكرم الله وجزيل هباته ليقوى جانب الرجاء في ذلك اليوم كان ذلك حسناً، ثم يعود إلى التضرع إلى الله ودعائه، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء، فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة. فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة, فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمعاً إلا أن يصل مزدلفة قبل العشاء الآخرة فإنه يصلي المغرب في وقتها، ثم ينتظر حتى يدخل وقت العشاء الآخرة فيصليها في وقتها، هذا, ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- "أنه أتى الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الْأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى, ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ"7. وفي رواية: "فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا"8. لكن إن كان محتاجاً إلى الجمع إما لتعب أو قلة ماء أو غيرهما فلا بأس بالجمع وإن لم يدخل وقت العشاء، وإن كان يخشى ألا يصل مزدلفة إلا بعد نصف الليل فإنه يصلي ولو قبل الوصول إلى مزدلفة، ولا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل.

ويبيت بمزدلفة، فإذا تبين الفجر صلى الفجر مبكراً بأذان وإقامة، ثم قصد المشعر الحرام فوحد الله وكبره ودعا بما أحب حتى يسفر جداً، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (وَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)9.ويكون حال الذكر والدعاء مستقبلاً القبلة رافعاً يديه.

 

فإذا أسفر جداً دفع قبل أن تطلع الشمس إلى منى ويسرع في وادي محسِّر، فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة -وهي الأخيرة مما يلي مكة- بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، كل واحدة بقدر نواة التمر تقريباً، يكبر مع كل حصاة. فإذا فرغ ذبح هديه ثم حلق رأسه إن كان ذكراً، وأما المرأة فحقها التقصير دون الحلق، ثم ينزل لمكة فيطوف ويسعى للحج.

 

والسنة أن يتطيب إذا أراد النزول إلى مكة للطواف بعد الرمي والحلق؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ"10.

ثم بعد الطواف والسعي يرجع إلى منى فيبيت بها ليلتي اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ويرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس في اليومين, والأفضل أن يذهب للرمي ماشياً وإن ركب فلا بأس، فيرمي الجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات عن مكة وهي التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً ويدعو دعاء طويلاً بما أحب، فإن شق عليه طول الوقوف والدعاء دعا بما يسهل عليه ولو قليلاً ليحصل السنة.

 

ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يأخذ ذات الشمال فيقف مستقبلاً القبلة رافعاً يديه ويدعو دعاء طويلاً إن تيسر عليه وإلا وقف بقدر ما يتيسر، ولا ينبغي أن يترك الوقوف للدعاء لأنه سنة، وكثير من الناس يهمله إما جهلاً أو تهاوناً، وكلما أضيعت السنة كان فعلها ونشرها بين الناس أؤكد لئلا تترك وتموت.

ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة ثم ينصرف ولا يدعو بعدها. فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تعجل ونزل من منى، وإن شاء تأخر فبات بها ليلة الثالث عشر ورمى الجمار الثلاث بعد الزوال كما سبق، والتأخر أفضل، ولا يجب إلا أن تغرب الشمس من اليوم الثاني عشر وهو بمنى فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال، ولكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير اختياره مثل أن يكون قد ارتحل وركب لكن تأخر بسبب زحام السيارات ونحوه؛ فإنه لا يلزمه التأخر؛ لأن تأخره إلى الغروب بغير اختياره.

فإذا أراد الخروج من مكة إلى بلده لم يخرج حتى يطوف للوداع؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ)11. وفي رواية: "أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْحَائِضِ"12. فالحائض والنفساء ليس عليهما وداع، ولا ينبغي أن يقفا عند باب المسجد الحرام للوداع لعدم وروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم.

 

ويجعل طواف الوداع آخر عهده بالبيت إذا أراد أن يرتحل للسفر، فإن بقي بعد الوداع لانتظار رفقة أو تحميل رحله أو اشترى حاجة في طريقه فلا حرج عليه، ولا يعيد الطواف إلا أن ينوي تأجيل سفره مثل أن يريد السفر في أول النهار فيطوف للوداع، ثم يؤجل السفر إلى آخر النهار مثلاً، فإنه يلزمه إعادة الطواف ليكون آخر عهده بالبيت13.

وبالنسبة لزيارة مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة فهي ليست واجبة مع الحج ولا في أي وقت، وإنما هي مستحبة يُثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها، وأما حديث: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)14. فليس بصحيح بل هو مكذوب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والزيارة التي يسافر من أجلها تشرع للمسجد، فإذا وصل إليه الزائر وصلى فيه التحية، شرع له حينئذ زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسلم عليه قائلاً: "السلام عليك يا رسول الله" بأدب وخفض صوت، ولا يطلب منه شيئاً بل يسلم وينصرف، كما أمر أمته بذلك، وكما هو فعل الصحابـة -رضوان الله عليهم. أما الذين يقفون عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بخشوع كحال وقوفهم في الصلاة، ويطلبون منه حوائجهم، أو يستغيثون به، أو يتوسطون به عند الله، فهؤلاء فعلهم شرك بالله -تعالى- والنبي بريء منهم، فليحذر كل مسلم أن يفعل ذلك مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مع غيره.

 

ثم يزور قبري صاحبيه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ثم يزور أهل البقيع والشهداء، الزيارة الشرعية لأهل القبور المسلمين، وهي التي يسلم فيها الزائر على الأموات، ويدعو الله لهم ويتذكر الموت وينصرف.

هذه صفة الحج كما وردت عن الشارع الحكيم, نذكرك أخي الحاج في نهاية هذه العبارات النافعة بإذن الله مرة أخرى أن تختار أولاً النفقة الطيبة الحلال، وأن تتجنب  المكاسب المحرمة؛ لأن النفقة الحرام سبب لرد حجِّ صاحبها ودعائه، وقد جاء في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ)15. وفي الحديث الآخر: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)16.

 

ولا تنسَ  أخي المسلم- أن تختار الرفقة الصالحة أهل التوحيد والإيمان أثناء سيرك إلى بيت الله الحرام ففي سيرك معهم خير وبركة لك, فالجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة17.

نسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا ويصلح أمرنا جميعاً, وأن يعيننا على طاعته وذكره وشكره, وأن يقبل من الحجاج حجهم, وأن يغفر لنا ولهم, إنه سميع مجيب, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه مسلم -2286- (6/426).

2 رواه مسلم -1686- (5/192).

3 رواه البخاري -1650- (6/274) ومسلم -2403- (7/71).

4 رواه البخاري -1424- (5/400) ومسلم -2404- (7/72).

5 بتصرف من:  http://www.alminbar.net/alkhutab/khutbaa.asp?mediaURL=8742

6 رواه مسلم -2138- (6/247) وأحمد -16151- (34/107).

7 رواه البخاري -1563- (6/132).

8 رواه البخاري -1571- (6/142).

9 رواه مسلم -2138- (6/247).

10 رواه البخاري -1439- (5/428) ومسلم -2040- (6/136).

11 رواه مسلم -2350- (7/6).

12 رواه البخاري -1636- (6/251).

14 قال الألباني عن هذا الحديث: "موضوع", انظر: السلسلة الضعيفة مختصرة -45-(1/119).

 15رواه الترمذي -558- (3/1) وصححه الألباني في سنن الترمذي -614- (2/114).

16 رواه مسلم -7998- (5/192).

17 مستفاد بتصرف من كتاب: دين الحق لـ(عبد الرحمن بن حماد آل عمر).