التجسس

التجسس في الميزان الشرعي

الحمد لله رب العالمين، الواحد القهار، والصلاة والسلام على رسول الله الجامع لمكارم الأخلاق، وعلى آله، وصحبه الأطهار الأبرار، أما بعد: فإن التجسس عمل وضيع نهى الله ​​​​​​​ عنه لأسباب منها أنه تتبع للعورات، وفضح لأسرار الناس، ومن تتبع عورة المسلم فضحه الله ولو في جوف بيته.

والتجسس: هو تتبع عورات الناس وهم في خلواتهم إما بالنظر إليهم وهم لا يشعرون، وإما باستراق السمع وهم لا يعلمون، وإما بالاطلاع على مكتوباتهم، ووثائقهم، وأسرارهم، وما يخفونه عن أعين الناس دون إذن منهم. وقد نهى الإسلام عن التجسس على المسلمين ما داموا ظاهري الاستقامة، غير مجاهرين بمعاصيهم، وكان ما يخفونه من أمورهم من السلوك الشخصي الذي يخصهم ولا يتعلق بكيد للمسلمين.

والتجسس مما يولد في المجتمع الأحقاد، ويورث العداوات والبغضاء ، إذ يشعر المتجسس عليه بأنه مشكوك بأمره غير موثوق.

والتجسس والتحسس هما مما يكشفان عورات الناس، ويتسببان بإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وسوف نلقي الضوء على هذا الموضوع من خلال الآتي:

أولاً: التجسس اصطلاحاً:

قال ابن الأثير: “التجسس: التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر”1، وذكر في معنى التجسس: “هو أن تتبع عين أخيك فتطلع على سره”2، وقيل: “هو أن يتتبع الإنسان أخاه ليطلع على عوراته سواء كان ذلك عن طريق مباشر بأن يذهب هو بنفسه يتجسس، أو كان عن طريق الآلات المستخدمة في حفظ الصوت أو غير ذلك فهو محرم. ثانياً: الفرق بين التجسس والتحسس: أكثر العلماء يقولون بوجود فرق بينهما قال ابن كثير – رحمه الله-: (التجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير كما قال ​​​​​​​ إخباراً عن يعقوب أنه قال: يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف:87).

وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله  قال: ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً 3، وقال القرطبي – رحمه الله -: “التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور، والتحسس هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه”4.

ثالثاً: النصوص الشرعية الواردة في ذم التجسس:

قال -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ5 قال ابن جرير – رحمه الله تعالى – قوله: ولا تجسسوا يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره .. ثم ذكر أثر ابن عباس: نهى الله المؤمن من أن يتتبع عورات المؤمن، وقال قتادة: “هل تدرون ما التجسس أو التجسس؟ هو أن تتبع أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سره” أ . ه6

ومن الأدلة: قول الله ​​​​​​​ : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا7 دلت الآية على حرمة أذية المؤمنين والمؤمنات، ومن الأذية تتبع عوراتهم، والتجسس عليهم.. قال قتادة بن دعامة: “إياكم وأذى المؤمن فإن الله يحوطه، ويغضب له”. 8

وقال – تعالى -: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (سورة التوبة:47) قال مجاهد في قوله – تعالى -: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ: وفيكم مخبرون لهم، يؤدون إليهم ما يسمعون منكم وهو الجواسيس9، وقد وردت أحاديث شريفة تدل على حرمة التجسس منها:

أ‌- عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا  ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً 10

ب‌- عن أبي برزة الأسلمي : قال رسول الله : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه!! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتَبّع  الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته11.

ج- وعن معاوية  قال: سمعت رسول الله  يقول: إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم12.

رابعاً: من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذم (التجسس):

قال عبد الله بن مسعود : “إنا قد نُهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به”13 قال أبو حاتم البستي – رحمه الله -: “التجسس من شعب النفاق، كما أن حسن الظن من شعب الإيمان، والعاقل يحسن الظن بإخوانه، وينفرد بهمومه وأحزانه، كما أن الجاهل يسيء الظن بإخوانه، ولا يفكر في جناياته وأشجانه”14

خامساً: أضرار التجسس:

1- التجسس دليل على ضعف الإيمان، وفساد الخلق.

2- وهو دليل دناءة النفس وخستها.

3- يوغر الصدور، ويورث الفجور.

4- يؤدي إلى فساد الحياة، وكشف العورات.

5- يستحق صاحبه غضب الله، ودخول النار والعياذ بالله – تعالى -.

فائدة:

يستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقاً إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلاً: كأن يخبر ثقة بأن فلاناً خلا بشخص ليقتله ظلماً، أو بامرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس، والبحث عن ذلك حذراً من فوات استدراكه” نقله النووي عن (الأحكام السلطانية) للماوردي واستجاده.

والله ولي التوفيق.


1– النهاية  (1/272) .

2– الدر المنثور للسيوطي (7/567) .

3– تفسير ابن كثير ( 4/213) .

4– تفسير القرطبي ( 16/218) .

5(12) سورة الحجرات.

6– الحجرات : 12 .

7– جامع البيان للطبري 13/165.

8– جامع البيان للطبري 12/58.

9– (تفسير البغوي: 10 / 298).

10– رواه البخاري ومسلم.

11– رواه أحمد والترمذي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (7984).

12– قال النووي في رياض الصالحين: (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح ) أ . هـ.

13– قال النووي في ( رياض الصالحين ) : حديث حسن صحيح . رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم) .

14– روضة العقلاء (ص 212) .