أيام التشريق
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
لقد اهتم ديننا الإسلامي ببعض الأيام، وأفردها عن غيرها بخصائص معينة، تميزها عن غيرها من الأيام، كيوم عرفة والنحر وغيرها. ومن هذه الأيام التي لها أحكام خاصة بها أيام التشريق, سنتطرق في هذا إلى تعريفها وتحديدها وفضلها وبعض الأحكام التي فيها.
أولاً تعريفها وتحديدها:
قال في لسان العرب: تشريق اللحم. تقطيعه وتقديده وبسطه، ومنه سميت أيام التشريق.
وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس ، وقيل: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية أشرق ثبير كيما نغير؛ الإغارة: الدفع. وقال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق أي تطلع. وقال أبو عبيد: فيه قولان: يقال: سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، وقيل: بل سميت بذلك لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر، يقول: فصارت هذه الأيام تبعاً ليوم النحر.
قال:- وهذا أعجب القولين إليَّ. قال: وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير، ولم يذهب إليه غيره.
وقيل المُشّرق: مصلى العيد بمكة. وقيل: مصلى العيد ولم يقيد بمكة ولا غيرها. والتشريق: صلاة العيد وإنما أخذ من شروق الشمس؛ لأن ذلك وقتها وفي الحديث: (لا ذبح إلا بعد التشريق) أي بعد الصلاة1.
وقال النووي رحمه الله: وأيام التشريق هي الثلاثة التي بعد النحر. ويقال لها: أيام منى؛ لأن الحجاج يقيمون فيها بمنى. واليوم ( الأول) منها يقال له: يوم القر- بفتح القاف- لأن الحجاج يقرون فيه بمنى. و (الثاني) يوم النفر الأول؛ لأنه يجوز النفر فيه لمن تعجل. و(الثالث) يوم النفر الثاني . وسميت أيام التشريق؛ لأن الحجاج يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا. أي: يشترونها، ويقددونها وأيام التشريق هي الأيام المعدودات.2.
وقد ذكر ابن كثير في سيرته كلاماً شبيهاً بهذا، حيث قال: أول أيام التشريق يسمى يوم القر؛ لأنهم يقرون فيه، ويقال له يوم الرؤس لأنهم يأكلون فيه رؤس الأضاحي، وهو أول أيام الشتريق، وثاني أيام التشريق يقال له: يوم النفر الأول لجواز النفر فيه، وقيل: هو اليوم الذي يقال له يوم الرؤس, واليوم الثالث من أيام التشريق يقال له: يوم النفر الآخر.
قال الله تعالى: ((فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه… ))الآية.(البقرة 203)
والأيام المعدودات هي أيام التشريق، والأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة.
قال ابن رجب رحمه الله: وأما الأيام المعدودات فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، واستدل ابن عمر بقوله تعالى: (( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ))وإنما يكون التعجيل في أيام التشريق. قال الإمام أحمد: ما أحسن ما قال ابن عمر. 3
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد اختلف في كونها يومين أو ثلاثة، وسميت أيام التشريق؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر عند الشمس، وقيل: التشريق التكبير دبر كل صلاة .4
وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهذا قول ابن عمر وأكثر العلماء، وأفضلها أولها وهو يوم القر؛ لأن أهل منى يستقرون فيه، ولا يجوز فيه النفر، وهي الأيام المعدودات وأيام منى .5
فضلها ومكانتها:
جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث نشيبة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام الشتريق أيام أكل وشرب) وخرجه أهل السنن والمسانيد من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: بعث في أيام منى منادياً ينادي: لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل. وفي رواية النسائي: أيام أكل وشرب وصلاة). وفي رواية للدارقطني بإسناد فيه ضعف: (أيام أكل وشرب وبعال).
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: (أيام الشتريق أيام أكل وشرب) وفي رواية: ذكر لله عز وجل، وفي رواية: أيام منى.
وهنا ننبه إلى مسألة وهي: أن بعض الناس سمع هذا الحديث واحتج في ترك بعض المأمورات وارتكاب بعض المنهيات، وإذا نصحته قال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب، فنقول له ولأمثاله: نعم إنها أيام أكل وشرب، وذكر لله فالإنسان يفرح بنعمة الله تعالى عليه، ويشكر هذه النعم بذكر الله تعالى وطاعته وعبادته .
من أحكام أيام التشريق:
– يحرم صوم هذه الأيام إلا للحاج المتمتع والقارن لمن لم يجد الهدي، وفي ذلك حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي).6
وروى أبو داود عن أبي مرة مولى أم هانئ أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاماً فقال: كل، فقال: إني صائم، فقال عمرو: كل فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها، وينهانا عن صيامها. قال الإمام مالك: وهي أيام التشريق 7.
وعند النسائي: (إن يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) 8
وجمهور العلماء يمنعون صيام هذه الأيام تطوعاً أو قضاءً أو نذراً.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ( وهل تلتحق بيوم النحر في ترك الصيام؛ كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج. أو يجوز صيامها مطلقاً أو للمتمتع خاصة أوله ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء، والراجح عند البخاري جوازها للمتمتع، فإنه ذكر في الباب حديثي عائشة وابن عمر في جواز ذلك، ولم يورد غيره، وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة، والصحابة الجواز مطلقاً، وعن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص المنع مطلقاً وهو المشهور عن الشافعي. وعن الأوزاعي و غيره يصومها أيضاً المحصر والقارن.
وأما عند الشافعية فقد ذكر النووي فيه قولان: أحدهما وهو الجديد لا يصح صومها لا لمتمتع ولا غيره، هذا هو الأصح عند الأصحاب. (الثاني): وهو القديم يجوز للمتمتع العادم الهدي صومها عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج، فعلى هذا هل يجوز لغير المتمتع أن يصومها فيه وجهان مشهوران أصحهما عند جميع الأصحاب لا يجوز وبه قطع المصنف وكثيرون أو الأكثرون لعموم الأحاديث في منع صومها وإنما رخص للمتمتع9.
وقال القسطلاني في شرحه البخاري: وروى أبو داود عن عقبة بن عامر مرفوعاً: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب. وفي حديث عمرو بن العاص عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق: إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن وأمر بفطرهن، وقد قال الطحاوي بعد أن أخرج أحاديث النهي عن ستة عشر صحابياً، فلما ثبت بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: النهي عن صيام أيام التشريق وكان نهيه عن ذلك بمنى والحجاج مقيمون بها، وفيهم المتمتعون والقارنون ولم يستثن منهم متمتعاً ولا قارناً دخل المتمتعون والقارنون في ذلك. أ.هـ
وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأكل والشرب سر حسي وهو: أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر وتعب الإحرام، وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة، عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل فيها من لحوم الأضاحي فهم في ضيافة الله تعالى لطفاً من الله تعالى بهم ورحمه، وشاركهم أيضاً أهل الأمصار في ذلك؛ لأن أهل الأمصار شاركوهم في النصب لله تعالى والاجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم والذكر والاجتهاد في العبادات، وفي التقرب إلى الله بإراقة دماء الأضاحي وفي حصول المغفرة فشاركوهم في أعيادهم واشترك الجميع في الراحة بالأكل والشرب، فصار المسلمون كلهم في ضيافة الله تعالى في هذه الأيام يأكلون من رزقه ويشكرونه على فضله، ولما كان الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه نهوا عن صيامها (إلا لمن لم يجد الهدي) وفي رواية ابن عوانة عن عبد الله بن عيسى عند الطحاوي (إلا لمتمتع أو محصر )أي فيجوز له صيامها، وهذا مذهب مالك وهو الرواية الثانية عن أحمد واختاره ابن عيدروس في تذكرته. وهو قول الشافعي القديم لحديث الباب. قال في الروضة: وهو الراجح دليلاً والصحيح من مذهب الشافعي وهو القول الجديد ومذهب الحنفية أنه يحرم صومها لعموم النهي وهو الرواية الأولى عن أحمد .10
– وكما سبق أن نبهنا فإن هذه الأيام العظيمة مع كونها أيام أكل وشرب فلا بد أن تكون أيام ذكر كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما وكبر محمد بن علي خلف النافلة.
قال الحافظ ابن حجر: وقال الطحاوي: كان مشايخنا، يقولون بذلك: أي بالتكبير في أيام العشر. وقد اعترض على البخاري في ذكر هذا الأثر في ترجمة العمل في أيام التشريق، وأجاب الكرماني بأن عادته أن يضيف إلى الترجمة ما له بها أدنى ملابسة استطراداً. أ.هـ والذي يظهر أنه أراد تساوي أيام التشريق بأيام العشر لجامع ما بينهما مما يقع فيهما من أعمال الحج، ويدل على ذلك أن أثر أبي هريرة وابن عمر صريح في أيام العشر، والأثر الذي بعده في أيام التشريق11.
وقال الحافظ أيضاً في قول البخاري باب التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة: قوله أيام منى أي يوم العيد والثلاثة بعده، قال الخطابي: حكمة التكبير في هذه الأيام أن الجاهلية كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها فشرع التكبير فيها إشارة إلى تخصيص الذبح له، وعلى اسمه عز وجل.
قال البخاري: وكان ابن عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً، وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد12.
– ولكن يسأل سائل ويقول: متى يكبر المكبر، وما صيغة التكبير؟ يجيب عن ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤادة دون المقضية وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية. وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده. وللعلماء اختلاف أيضاً في ابتدائه وانتهائه فقيل: من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره، وقيل من صبح يوم النحر، وقيل من ظهره، وقيل في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر، وقيل إلى عصره، وقيل إلى ظهر ثانيه، وقيل إلى صبح آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل إلى عصره. قال: وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، أخرجه ابن المنذر وغيره والله أعلم. وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: كبروا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً" ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بين أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم، وهو قول الشافعي وزاد ولله الحمد.، وقيل يكبر ثلاثاً، ويزيد: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له). وقيل يكبر اثنتين بعدهما: (لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبرن ولله الحمد) جاء ذلك عن عمر وعن ابن مسعود نحوه، وبه قال أحمد وإسحاق وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها) 13
هذا ما تسير جمعه في أيام التشريق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 – لسان العرب 10/176.
2 – المجموع 6/442.
3 – فتح الباري لابن رجب (9/7-8).
4 – فتح الباري لابن حجر 4/285.
5 – إرشاد الساري لشرح البخاري لأحمد القسطلاني 4/565.
6 – البخاري مع الفتح برقم (1998.
7 – أبو داود برقم (2415) وصححه الألباني.
8 – النسائي (3004) والترمذي وأبو داود من حديث عقبة بن عامر وصححه الألباني في صحيح أبو داود.
9 – المجموع 6/443.
10 – إرشاد الساري لأحمد القسطلاني4/567.
11 – فتح الباري2/531.
12 – الفتح (2/534-535.
13 – الفتح 2/353-356.