أدب الخلاف

أدب الخــلاف

 أدب الخــلاف

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فهذه جملة من الآداب التي إذا اتبعها المسلمون فيما ينشأ بينهم من خلاف اهتدوا -بحول الله ومشيئته ورحمته- إلى الحق:1

1.    التثبت من قول المخالف‏:‏

أول ما يجب على المسلم أن يتثبت في النقل، وأن يعلم حقيقة قول المخالف، وذلك بالطرق الممكنة كالسماع من صاحب الرأي نفسه، أو قراءة ما ينقل عنه من كتبه لا مما يتناقله الناس شفاهاً، أو سماع كلامه من شريط مسجل أيضاً مع ملاحظة أن الأشرطة الصوتية يمكن أن يدخل عليها القطع والوصل، وحذف الكلام عن سياقه، ولذلك يجب سماع الكلام بكامله، ولو أن أهل العلم يتثبتون فيما ينقل إليهم من أخبار لزال معظم الخلاف الذي يجري بين المسلمين اليوم، وقد أمرنا الله بالتثبت كما قال -سبحانه وتعالى‏-:‏ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).

2.    تحديد محل التنازع والخلاف‏:‏

كثيراً ما يقع الخلاف بين المخالفين، ويستمر النقاش والردود وهم لا يعرفون على التحديد ما نقاط الخلاف بينهم، ولذلك يجب أولاً -قبل الدخول في نقاش أو جدال- تحديد مواطن الخلاف تحديداً واضحاً؛ وكثيراً ما يكون الخلاف بين المختلفين ليس في المعاني، وإنما في الألفاظ فقط، فلو استبدل أحد المختلفين لفظة بلفظة أخرى لزال الإشكال بينهما.‏

3.    لا تتهم النيات‏:

مهما كان مخالفك مخالفاً للحق في نظرك فإياك أن تتهم نيته، افترضْ في المسلم -الذي يؤمن بالقرآن والسنة ولا يخرج عن إجماع الأمة- الإخلاص، ومحبة الله ورسوله، والرغبة في الوصول إلى الحق، وناظره على هذا الأساس، وكن سليم الصدر نحوه‏.‏

لا شك أنك بهذه الطريقة ستجتهد في أن توصله إلى الحق إن كان الحق في جانبك وأما إذا افترضت فيه من البداية سوء النية، وقبح المقصد فإن نقاشك معه سيأخذ منحى آخر، وهو إرادة كشفه وإحراجه، وإخراج ما تظن أنه خبيئة عنده، وقد يبادلك مثل هذا الشعور، فينقلب النقاش عداوة، والرغبة في الوصول إلى الحق رغبة في تحطيم المخالف، وبيان ضلاله وانحرافه‏.‏

4.    أخلص النية لله‏:‏

اجعل نيتك في المناظرة هو الوصول إلى الحق وإرضاء الله -سبحانه وتعالى-، وكشف غموض عن مسألة يختلف فيها المسلمون، ورأب الصدع بينهم، وجمع الكلمة، وإصلاح ذات البين.‏

وإذا كانت هذه نيتك فإنك تثاب على ما تبذله من جهد في هذا الصدد‏.‏ قال -تعالى-‏:‏ (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ( سورة الزمر:2)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى‏)‏ متفق عليه.

5.    ناظر وفي نيتك أن تتبع الحق وإن كان مع خصمك‏:‏

ينبغي على المسلم الذي يخالف أخاه في مسألة ويناظره فيها ألا يدخل نقاشاً معه إلا إذا نوى أن يتبع الحق أني وجده، وأنه إن تبين له أن الحق مع مخالفه اتبعه وشكر لأخيه الذي كان ظهور الحق على يده لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس‏.‏

6.    اتهم رأيك‏:‏

ينبغي على المسلم المناظر -وإن كان متأكداً من رأيه أنه صواب- أن يتهم رأيه، ويضع في الاحتمال أن الحق يمكن أن يكون مع مخالفه، وبهذا الشعور يسهل عليه تقبل الحق عندما يظهر.‏

7.    اسمع قبل أن تُجِيب:

من آداب البحث والمناظرة أن تسمع من مخالفك قبل أن ترد، وأن تتأكد من حجته وتسمعها جيداً‏.‏

8.    اجعل لمخالفك فرصة مكافئة لفرصتك‏:‏

ينبغي على كل مختلفين أن يعطي كل منهما للآخر عند النقاش فرصة مكافئة لفرصته، فإن هذا أول درجات الإنصاف‏.‏

9.    اطلب الإمهال إذا ظهر ما يحتاج أن تراجع فيه نفسك‏:

إذا ظهر لك أن أمراً ما يجب أن تراجع فيه النفس وتتفكر فيه لتتخذ قراراً بالعدول عن رأيك أو إعادة النظر فيه، فاطلب الإمهال حتى تقلِّب وجهات النظر.‏ وأما إذا تحققت من الحق فبادر إعلانه، والإذعان له، فإن هذا هو الواجب عليك، فالذي يخاصمك بالآية والحديث يطلب منك في الحقيقة الإذعان إلى حكم الله وحكم رسوله.

وكل من ظهر له حكم الله وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجب عليه قبوله فوراً؛ كما قال -تعالى-‏:‏ (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة النور:51)

10.     لا تُجادلْ ولا تُمارِ‏:

يجب أن يكون مقصدك معرفة الحق، أو توضيحه لمخالفك، فلا تدخل مع مسلم في جدال لا ثمرة له؛ لأن الجدال والمماراة مذمومان، والجدال والمماراة أن يكون الانتصار لرأيك‏;‏ وقطع خصمك وإثبات جهله، أو عجزه، وإثبات أنك الأعلم أو الأفهم.‏ أو الأقدر على إثبات الحجة‏!

11.     أرجئ النقاش إلى وقت آخر إذا علمت أن الاستمرار فيه يؤدي إلى الشقاق والنفور‏:‏

إذا تيقنت أن الاستمرار في النقاش والحوار سيؤدي إلى الشقاق والنفور، فاطلب رفع الجلسة، وإرجاء النقاش إلى وقت آخر، وتذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً‏)‏.2

12.     الإبقاء على الأخوة مع الخلاف في الرأي في المسائل الخلافية أولى من دفع المخالف إلى الشقاق والعداوة‏:‏

إذا علمت من مخالفك أنه لا يبقى أخاً إلا ببقائه على ما هو عليه من أمر مرجوح ورأي مخالف للحق في نظرك، فتركه على ما هو عليه أولى من دفعه إلى الشقاق والخلاف؛ لأن بقاء المسلمين أخوة في الدين مع اختلافهم في المسائل الاجتهادية خير من تفرقهم وتمزقهم وبقائهم على خلافاتهم‏‏.‏‏. 

13.     إعذار المخالف وترك أمره لله -سبحانه وتعالى‏-:‏

من الآداب الشرعية إعذار من يخالفك الرأي من المسلمين في الأمور الاجتهادية ، وإيكال أمره لله ، وتنزيهه من فساد النية ، وإرادة غير الحق ما دام ظاهره هو الدين والعدل‏.‏

14.     لا تشنيع ولا تفسيق ولا تبديع للمخالف في الأمور الاجتهادية‏:‏

لا يجوز اتهام المخالف، ولا التشنيع عليه، ولا ذكره من أجل مخالفته، ولا تبديعه، ولا تفسيقه. ومن صنع شيئاً من ذلك فهو المبتدع المخالف لإجماع الصحابة‏.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏(‏وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال‏:‏ تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي‏.‏ وهم الأئمة الذين ثَبَتَ بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم‏)‏3

وقال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي:‏ ‏(‏ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصر، ولا ابن مندة، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة‏)‏.4

15.     لا يجوز التشنيع ولا التبديع ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة ومجتهديها إذا خالف بعض الأمور القطعية اجتهاداً‏:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:‏ ‏(‏وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد لوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن الإنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل حرام، والمتعة حرام‏).5

16.     يجوز بيان الحق وترجيح الصواب وإن خالف اجتهاد الآخرين‏:‏

لكل من المختلفين أن يذكر ما يراه حقاً، وينشر ما يراه صواباً، ويرجح ما يراه الراجح، وله أن يبين أن قول معارضه مرجوح؛ لأن كتمان العلم لا يجوز، وعلى كل مجتهد أن يذكر ما يعتقد أنه الحق، وإن خالف من خالف من الأئمة والعلماء والأقران‏.

وقد خالف ابن عمر وابن عباس وغيرهما، عمر بن الخطاب، وأبا بكر الصديق -رضي الله عنهم- في متعة الحج، وأفتيا بخلافهما، هذا مع كمال الموالاة للصديق والفاروق‏.

وكان كل إمام وعالم يفتي بما يراه الصواب وإن خالف غيره، وقد قال الإمام مالك:‏ ‏(‏ما منا إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر‏)‏ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-.

17.     لا يجوز حمل الناس على الرأي الاجتهادي‏:‏

لا يجوز لعالم مجتهد ، ولا لإمام عام أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده‏.‏

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عمن ولي أمراً من أمور المسلمين، ومذهبُه لا يُجوِّز شركة الأبدان، فهل يجوز له منع الناس؟‏

فأجاب:‏ (ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار‏. وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك.‏ وقال:‏ إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد‏:‏ لا تسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة‏.‏ ولهذا كان بعض العلماء يقول:‏ إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ ما يسرني أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة‏:‏ ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.‏

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي رحمه الله وغيره:‏ إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه، ونظائر هذه المسائل كثيرة‏:‏ مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه، وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من ذلك، والقراءة بالبسملة سراً أو جهراً، وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم‏. ومن هذا الباب الشركة بالعروض، وشركة الوجوه، والمساقاة على جميع أنواع الشجر والمزارعة على الأرض البيضاء، فإن هذه المسائل من جنس الأبدان بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان، ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقات، ولم ينكره عليهم أحد، ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها.‏ ولهذا كان أبو حنيفة -رحمه الله- يفتي بأن المزارعة لا تجوز، ثم يفرع على القول بجوازها، ويقول: ‏(إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع، ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها، كما اختار ذلك من اختار من أصحاب الشافعي وغيره‏).6

فهذه بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها عند الخلاف، وإذا تأدب بها المسلمون علماء وطلاب علم وعامة زال كثير مما يحصل بينهم من شحناء وتباغض وتحاسد وتقاطع؛ بسبب إعجاب كل ذي رأي برأيه.

نسأل الله العلي الكبير أن يمن علينا بأخلاق حسنة وآداب عالية، يرفع بها درجاتنا في جناته جنات النعيم..

والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً.


1– الموضوع منقول من (القواعد الذهبية في أدب الخلاف) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.. بتصرف كبير.

2– رواه أبو داود في سننه، وحسنه الألباني في السلسلة (273).

3– مجموع الفتاوى (19/123)‏.‏

4– سير أعلام النبلاء (14/40).

5– الآداب الشرعية (1/186).

6– الفتاوى الكبرى 79/30-81