دلائل النبوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن الله – تعالى – خلق الخلق ليعبدوه، ويوحدوه في هذه الأرض، ولا يستطيع الإنسان بمفرده أن يصل إلى العبادة الصحيحة لله وحده لا شريك له، فكان الطريق هو أن يرسل الله الأنبياء والمرسلين يدلون الناس على خالقهم، ويعلمونهم كيفية عبادة ربهم ، وقد يعتري الناس الشك فيمن جاءهم فلذلك أيد الله – تعالى – رسله وأنبياءه – عليهم السلام – بمعجزات تدل على صدقهم، وأنهم مرسلون من قبل ربهم ، ولم تعد مسألة إثبات وجود الله بالمشكلة الدينية؛ وكذا وحدانيته، فاطراد التقدم العلمي يزيد ذلك إثباتاً كل يوم قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (فصلت:35)، وجميع الديانات السماوية قبل تحريفها تؤمن بوجود إله واحد هو الله ، وأنه المستحق للعبادة، ولم ينكر ذلك إلا شرذمة من الملاحدة والماديين؛ مكابرة، وإلا فهم يوقنون في قرارة أنفسهم بواحدنيته وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً(النمل:14).
إلا أن المسألة الأساسية هي إثبات رسالة الرسول ﷺ، ويعنينا هنا إثبات نبوة محمد ﷺ.
فالإيمان بالنبوة – أي الصلة بين الله تعالى ومجتمع الإنسان عن طريق الأنبياء – من خصائص الدين الحق، والنبي هو الإنسان الذي يختاره الله ليقوم بأداء رسالة معينة، وقد وجدت مذاهب تؤمن بالله وتنكر النبوات، وتزعم أنه لا حاجة لوجود النبي؛ لأن ما أتى به الأنبياء موافق للعقل، ففي العقل غنى عنه، أو مخالف له؛ فلا حاجة لنا به، فالعقل عندهم طريق الاستدلال، ولكننا لا نستطيع بالمنطق التجريبي والرياضي التوصل إلى حقائق ما وراء المادة، فالعلم الصحيح بذات الله ، وأوصافه، وحساب الآخرة من ثواب وعقاب، وكل ما يتعلق بعالم الغيب؛ كل ذلك لا يعرف إلا عن طريق الأنبياء – عليهم السلام -.
وقد تمت الصلة بين الله وأنبيائه – عليهم السلام – عن طريق الوحي كما في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور (الشورى:51-53)
فجعل “التكليم ثلاثة أنواع”: الوحي المجرد، والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى ، والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة، وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد ﷺ.
وقد وصف ﷺ صفة مجيء الوحي إليه بقوله كما في حديث عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة – رضي الله عنها -: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً رواه البخاري ومسلم.
وحين يدعي إنسان أنه يتصل بالله، ويحمل عنه إلى الناس رسالة تترتب عليها تكاليف وواجبات؛ فإن من الطبيعي أن يطالبه الناس بالدليل على صدقه، ولم ير القرآن في هذا أمراً خارجاً عن المعقول، فالتساؤل حتى للتعليم مطلوب وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة البقرة:260).
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ما يثبت النبوة:1
فإن دراسة دلائل النبوة تزيد المؤمن إيماناً، وربما كانت سبباً لإسلام من يرد الله به خيراً، وأما الملحد والمعاند فإنه لا يزداد إلا عمى ولو جاءته كل آية كما يقول عنهم: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (سورة الحجر:14-15).
وكما قال عن قريش: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (سورة الإسراء 90-93).
وهذه المعجزات أكبر برهان على أن محمداً ﷺ رسول من عند الله، فإن الله لا يؤيد الكاذب كما قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (سورة الحاقة: 38 – 47)، وقال تعالى: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (سورة الإسراء:73) ولذا فقد باء بالخزي من ادعى النبوة وهو كاذب كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، ومن بعدهما المختار ابن أبي عبيد الثقفي، وغيرهم ممن ادعى النبوة.2
وعدم الإيمان بالمعجزات مؤذن بالعقوبة العاجلة، والعقوبة الأخروية؛ قال الله : إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مائدة مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (سورة المائدة:112- 115).
وبما أن دلائل النبوة أكبر برهان على صدق نبينا محمد ﷺ مع ما أكرمه به ربه من مكارم الأخلاق؛ فقد ضاقت صدور أقوام بالآيات والبينات، والدلائل الواضحات؛ كما حكى الله عنهم بقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (سورة القمر:1-3).
لقد علمنا أن الله – تعالى – يرسل أنبياءه ورسله كي يرشدوا الناس إلى ربهم وخالقهم، وأنه يؤيدهم بالبينات، والآيات، والمعجزات؛ ما يدل على صدق ما جاءوا به من عند الله.
وقد جاء الرسل والأنبياء – عليهم السلام – بمعجزات حسية كثيرة ومتنوعة وتسمى دلائل النبوة، وأشار إليها القرآن على أنها آية وبينة وبرهان، وكان القصد من هذه الدلائل تحدي قدرات الناس الذين كانوا يعيشون في زمن معين، ومكان معين؛ فيما برعوا ونبغوا فيه ليعلموا أن ما جاء به الرسل هو الحق من عند الله ، وليثبت الإيمان في قلوب الناس، والمعجزة تكون في عصرهم مما يلائم مستواهم الفكري، ورقيهم الحضاري؛ لتكون الحجة أقوى فمثلاً:
أ- الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبة لبيئة العرب الصحراوية، فمعجزة صالح كانت ناقة غريبة المنشأ والمولد بين نوق أهل البادية: قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (سورة الشعراء:153-156).
ب- وكان السحر منتشراً بين المصريين عامتهم وخاصتهم، واسترهبهم فرعون وجنوده به، فجاءت معجزات موسى من جنس المشهور بين قومه، فمن معجزاته الرئيسية: العصا فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، واليد: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (سورة النمل:12)، وهكذا كل نبي من الأنبياء – عليهم السلام – تأتي المعجزة مناسبة لقومه، ولفكرهم، ورقيهم الحضاري.
وقبل بعثة خاتم النبيين ﷺ بلغت الفصاحة والبلاغة وفنون القول مبلغاً عظيماً، وأخذت الكلمة مكاناً في نفوس العرب من التقديس والتعظيم لم يبلغه شيء آخر، مما حدا بهم أن يعلقوا المعلقات السبع في جوف الكعبة، وكانت القصيدة تفعل فعلها في القبائل، وربما نزلت منزلة قبيلة إلى الحضيض لأن شاعراً أقذع في هجائها، وربما ارتفعت مكانتها لأن شاعراً قد أجاد في تمجيد مآثرها، فكانت معجزة خاتم النبيين في الكلمة والقول.
والحكمة الإلهية في اختيار المعجزة من جنس ما اشتهر بين القوم هي أن الإنسان إذا أوتي من قبل ما يعتبره مفخرته، ومجال إجادته واعتزازه؛ تكون الحجة عليه أقوى، والمعجزة أكثر فعلاً وأثراً، ولكي تكون معجزة النبي الخاتم ﷺ أشد لمعاناً، وأسطع برهاناً، فقد جعل الله معجزته كتاباً معجزاً، وهو الإنسان الأمي الذي لم يخط بيده كتاباً، ولم يتلق من أحد من البشر معرفة.3
طريقة القرآن في إثبات النبوة:
الطريقة القرآنية في إثبات النبوة هي إيراد أدلة كثيرة تتكاتف لتؤدي إلى اليقين، فالقرآن الكريم تحدٍ للعرب والعجم، والإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (سورة البقرة:23)، وقد كان رسول الله ﷺ فيهم أربعين عاماً فلم يحدثهم بنبوة، ولا رسالة؛ فهذا الأمر يخضع لمشيئة الله فقط: قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (سورة يونس:16)، فلم الشك في أمره مع أنه قد تجرد عن كل مطمع دنيوي: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (سورة سبأ:47)، ولم الشك في أمره وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يمكن أن يستمد من كتاب: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (سورة العنكبوت:48).
ومعجزات النبي ﷺ الدالة على صدقه كثيرة جداً منها ما هو حسي كانشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه، وتكثير الطعام، وخطابه الأشجار والأحجار والحيوان، وانقيادها له ﷺ، وإخباره عن أمور غيبية فوقعت كما أخبر، ومن دلائل النبوة الحسية خاتم النبوة، وحنين الجذع، ورميه بكف من حصى في وجوه الكفار، وإخبار الذراع، وكثير من المعجزات والدلائل الحسية.
وقد يقول قائل: إن عصا موسى، أو ناقة صالح، أو هذه الدلائل لنبينا ﷺ لم نرها في هذا القرن الحادي والعشرين، فنريد علامة حاضرة حية تبقى إلى قيام الساعة.
فنقول: هذه العلامة الحية الحاضرة المستمرة إلى قيام الساعة هي القرآن الكريم، كلام الله – تعالى – المعجز، فهو معجز في فصاحته، فلم يستطع العرب على فصاحتهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، وهو معجز في نظمه، وهو معجز في عدم تبدليه وتغييره، أو تحريفه، أو زيادته ونقصانه؛ لأنه من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
قال ابن عقيل: “حفظ جميعه، وآياته، وسوره التي لا يدخل عليها تبديل من حيث عجز الخلائق عن مثلها، فكان القرآن حافظ نفسه من حيث عجز الخلائق عن مثله”، وقال أيضاً: إذا أردت أن تعلم أن القرآن ليس من قول رسول الله ﷺ فانظر إلى كلامه كيف هو إلى القرآن”، قال وأيضاً: “ومن إعجاز القرآن أنه لا يمكن لأحد أن يستخرج منه آية قد أخذ معناها من كلام قد سبق، فإنه ما زال الناس يكشف بعضهم عن بعض فيقال: المتنبي أخذ من البحتري”.
وقال: “وقد استخرجت معنيين عجيبين: أحدهما: أن معجزات الأنبياء – عليهم السلام – ليست كمعجزة نبينا ﷺ، فلو قال ملحد اليوم: أي دليل على صدق محمد وموسى؟ فقيل له: محمد شق له القمر، وموسى شق له البحر، لقال: هذا محال… فجعل الله سبحانه هذا القرآن معجزاً لمحمد ﷺ يبقى أبداً .. ليظهر دليل صدقه بعد وفاته، وجعله دليلاً على صدق الأنبياء، إذ هو مصدق لهم، ومخبر عن حالهم.
وعن إعجاز القرآن يقول الأستاذ المهتدي (أتيين دينيه) الكاتب الفرنسي الذي أسلم، وحج، وكتب الكثير عن الإسلام في كتابه “محمد رسول الله ﷺ“: “إن معجزات الأنبياء الذين سبقوا محمداً ﷺ كانت في الواقع معجزات وقتية، وبالتالي معرضة للنسيان السريع، بينما نستطيع أن نسمي معجزة الآية القرآنية (المعجزة الخالدة)، ذلك أن تأثيرها دائم، ومفعولها مستمر، ومن اليسير على المؤمن في كل زمان، وفي كل مكان؛ أن يرى هذه المعجزة بمجرد تلاوة كتاب الله”.4
لقد أعجز القرآن الخلق في أسلوبه ونظمه، وفي علومه وحكمه، وفي تأثير هدايته، وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلية، وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول، وقد تحدى العرب بإعجازه، ونقل العرب هذا التحدي إلى كل الأمم فظهر عجزها.
إن دلائل النبوة لا تحصر في معجزة القرآن أو غيرها من المعجزات الحسية، بل هذه الشريعة كلها من أبرز دلائل النبوة شريعة مرنة صالحة لكل زمان ومكان، ولقد تكلم العلماء في هذا الباب، وصنفوا المصنفات من ذلك كتاب دلائل النبوة للبيهقي قال فيه الحافظ ابن كثير: “دلائل النبوة لأبي بكر البيهقي من عيون ما صنف في السيرة والشمائل”، وقال تاج الدين السبكي: “أما كتاب دلائل النبوة، وكتاب شعب الإيمان، وكتاب مناقب الشافعي؛ فأقسم ما لواحد منها نظير”.5
وكذلك كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وغيرها من الكتب والمؤلفات والمصنفات التي تكلمت وأسهبت وأطالت في هذا الموضوع العظيم ليزداد الذين آمنوا إيماناً، وليعلم من لم يكن مؤمناً علّ الإيمان إلى قلبه يكون هذا طريقه، وأما الجاحد المعاند الذي يريد أن يمنع نور الشمس عن الناس بيده فليخسأ، وليعلم أن الله متم نوره ولو كره الكافرون، والحمد لله رب العالمين،
المراجع:
– دلائل النبوة للبيهقي.
– الصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي.
– مباحث في إعجاز القرآن لمصطفى السباعي.
– الإعجاز العليم في القرآن الكريم لحسن أبو العينين.