أعمال القلوب -الإخلاص-

New Page 1

 أعمـال القلـوب

الإخـلاص

المقدمة:                    

الحمد لله عالم الخفيات، ومحيي العظام وهي رفات، والمتجاوز عن الخطايا والسيئات، بديع الأرض والسماوات، ومفرج الكر بات، والصلاة والسلام على الشفيع في العرصات، والمتعبد لربه في الخلوات والجلوات، خاتم الرسل والرسالات، وعلى آله الأطهار، وصحابته النجباء الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار.

أما بعد:

فإن الله – سبحانه وتعالى -لم يخلق خلقه سدى وهملاً، بل جعلهم مورداً للتكليف، ومحلاً للأمر والنهي، وألزمهم فهم ما أرشدهم إليه مجملاً ومفصلاً، وقسمهم إلى شقي وسعيد، وجعل لكل واحد من الفريقين منزلاً، وأعطاهم موارد العلم والعمل من القلب والسمع والبصر والجوارح، نعمة منه وتفضلاً، فمن استعمل ذلك في طاعته، وسلك به طريق معرفته على ما أرشد إليه ولم يبغ عنه عدولاً، فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك، ومن سلك به إلى مضارة الله سبيلاً، ومن استعمله في إرادته وشهوته ولم يرع حق خالقه فيه تحسر إذا سئل عن ذلك، ويحزن حزناً طويلاً، فإنه لا بد من الحساب على حق الأعضاء ؛ لقوله – سبحانه وتعالى-:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}سورة  الإسراء(36).

 ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحيله ، قال – صلى الله عليه وسلم-: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله"[1] فهو ملكها، وهي المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى يصدر عن قصده ونيته، وهو المسؤول عنها كلها؛ لأن كل راع مسؤول عن رعيته لذلك كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون.

ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوسواس وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده به عن الطريق وأمده من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له المصايد والحبائل ما إن يسلم من الوقوع فيها لم يسلم من  أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول في ضمان:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }سورة الحجر (42). فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشيطان، وحصولها بسبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين، وإشعار القلب، إخلاصه العمل، ودوام اليقين، فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند الله – سبحانه وتعالى-  من المقربين، وشمله استثناء :{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} سورة الحجر(40) .

ولما منّ الله الكريم بلطفه بالاطلاع على ما اطلع عليه من أمراض القلوب وأدوائها، وما يعرض لها من وساوس الشياطين أعدائها، وما تثمرها تلك الوساوس من الأعمال، وما يكسب القلب بعدهما من الأحوال، فإن العمل السيء مصدره عن فساد قصد القلب، ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة، فيزداد على مرضه حتى يموت، ويبقى لا حياة فيه ولا نور له[2].

أهمية الموضوع:

 تكمن أهمية هذا  الموضوع في عدة نقاط رئيسية هي:

1. أن الله أمر بتطهير القلب، فقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} سورة المدثر (4) والمقصود بالثياب القلب كما هو قول جمهور العلماء.

2.   غفلة كثير من المسلمين عن قلوبهم؛ مع الاهتمام الزائد بالأعمال الظاهرة مع أن القلب هو الأساس والمنطلق.

3.   أن سلامة القلب وخلوصه سبب للسعادة في الدنيا والآخرة.

4.   أن كثيراً من المشاكل بين الناس سببها من القلوب وليس لها أي اعتبار شرعي ظاهر.

5. مكانة القلب في الدنيا والآخرة، قال عز وجل:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} سورة الشعراء} (88- 89).  وقال تعالى:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} سورة ق(33).

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قوله – صلى الله عليه وسلم-: " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار إلى صدره[3].

 وفي حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنه- قوله – صلى الله عليه وسلم- : " إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله ألا وهي القلب"[4].

6.   أن من تعريف الإيمان :وتصديق بالجنان. وفي تعريف آخر: عمل الجوارح وعمل القلب.

 فلا إيمان إلا بتصديق القلب وعمله، والمنافقون لم تصدق قلوبهم وعملوا بجوارحهم، ولكنهم لم تنفعهم أعمالهم، بل إنهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى"{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} سورة النساء(145) .

ولكن قليلاً منا من يقف أمام  قلبه فهو يقضي جل وقته في عمله الظاهر، والقلب يمتحن ففي الحديث: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين، قلب أسود وقلب أبيض…!!"[5] وليس الامتحان الابتلاء بالشيء الظاهر كالسجن، أو الفصل من العمل، أو الإيذاء، ولكن الامتحان الأصعب هو امتحان القلوب، وفي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} سورة الأنفال(24) معنى الامتحان.

والقلب كالبحر لاحتوائه على أسرار عجيبة وغموض كبيرة، وأحوال متقلبة، سواءً كانت منكرة؛ كالغفلة – الزيغ – الأقفال- القسوة – الرياء – الحسد – النفاق- العجب- الكبر … والنتيجة الطبع والختم والموت… وصفته أسود.

 أو كانت تلك الأحوال والأعمال محمودة؛ كاللين – الإخبات – الخشوع – الإخلاص – المتابعة – الحب – التقوى – الثبات – الخوف – الرجاء- الخشية – التوكل- الرضا – الصبر … والنتيجة السلامة والحياة والإيمان… وصفته أبيض، فالقلب عالم مستقل.

وبما أن القلب عالم مستقل فسنفرد له حلقات عدة للحديث عن بعض أعماله وأحواله، فنقول وبالله وحده نستعين:

أولاً: الإخلاص:

تعريفه:

 لغة: الإخلاص لله في الطاعة بترك الرياء.

واصطلاحاً: هو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك.

وقيل: أن يخلص قلبه لله فلا يبقى فيه شرك لغير الله، فيكون الله محبوب قلبه، ومعبود قلبه، ومقصود قلبه فقط.

وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه.

وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.

أهميته:

إن مما يدل على أهمية الإخلاص ما ورد في الكتاب والسنة من كثرة ذكره، والتحذير من التفريط فيه ، وبيان أنه شرط من شروط قبول العمل الصالح عند الله، قال الله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} سورة البينة(5). وقال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} سورة الزمرَ (2- 3). وقال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } سورة الزمر (15- 14).

فالإخلاص لله شرط لقبول العمل، والله لا يقبل  من العمل إلا ما أريد به وجهه، ولهذا قال تعالى:  {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} سورة الفرقان))(23)  وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشرعية المرضية فهو باطل.

وقد جمع هذين الشرطين الإمام حافظ حكمي -رحمه الله- في سلم الوصول فقال:

شرط قبول السعي أن يجتمعا           فيه إصابة وإخلاص معـاً

لله رب العـرش لا سـواه            موافق الشرع الذي ارتضاه

وكـل ما خـالف للوحيـين           فإنـه رد بغـير مـين

وترك الإخلاص هو مما خالف الوحيين الكتاب والسنة؛ فإنهما قد جاءا بإثبات هذين الشرطين، وجعلهما شرطين في قبول الأعمال.

وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} سورة الملك(2) قال الفضيل بن عياض – رحمه الله- أخلصه وأصوبه. قالو: ما أخلصته وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة؛ ثم قرأ قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} سورة الكهف(110). وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} سورة النساء)(125) وإسلام الوجه هو: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله – صلى الله عليه وسلم- وسننه.

 وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكن قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار"[6].

وفي الحديث الإلهي يقول الله –تعالى-: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فهو للذي أشرك به. وأنا منه بريء"[7]. ولا شك أن الإخلاص من أعمال القلوب بل هو من أهمها وأعظمها.

وفي الحديث الصحيح: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم".[8]

وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: " ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تكون من ورائهم".[9]

فيا إخوتاه! من وجد الله فماذا فقد!! ومن فقد الله فماذا وجد!!

متى صح منك الود فالكل هين                 وكل الذي فوق التراب تراب.

إذا اطلع الخبير البصير على الضمير فلم يجد في الضمير غير الخبير، جعل فيه سراجاً منيراً.

ويرحم الله الفضيل بن عياض: أدركنا الناس وهم يراءون بما يعملون، فصار الآن يراءون بما لا يعملون.

يا إخوتاه! أعربنا في القول، ولحنا في العمل، وإخلاصنا يحتاج إلى إخلاص.

إخوتاه! الإخلاص مسك القلب، وماء حياته، ومدار الفلاح كله عليه.

سئل الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله- عن الصدق والإخلاص؟ فقال: بهذا ارتفع القوم.

 نعم بضاعة الآخرة لا يرتفع فيها إلا مخلص صادق! .

إنما تحفظ هذه الأمة وتنصر إلا بإخلاص رجالها![10]

 نماذج من إخلاص السلف:

إن خير وسيلة لاستغلال العزائم، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والا ئتساء بالأسلاف الأجلاء .. هو قراءة سيرة النبغاء الصلحاء، والاقتراب من العلماء النبهاء العالمين المجدين ذوي المجد الرفيع، واغتنام الباقيات الصالحات، وإخلاص النيات!![11] .

وهذه نقطة من بحار السلف.. وعجائبهم.. فارعها قلبك، وإن كانت غريبة في عالمنا.. وأي شيء عندهم لا يكون اليوم غريباً، ولسان حالهم يقول:

تركنا البحار الزاخرات ورائنا          فمن أين يدري الناس أنا توجهنا.

* هذا السليم الأسلم المذكور بالسواد الأعظم الطوسي محمد بن أٍسلم:

 قال خادمه أبو عبد الله: صحبت محمد بن أسلم نيفاً وعشرين سنة لم أره يصلي حيث أراه من التطوع إلا يوم الجمعة، ولا يسبح ولا يقرأ حيث أراه، ولم يكن أحد أعلم بسره وعلانيته مني، وسمعته يحلف كذا وكذا مرة، أن ول قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، ولكن لا أستطيع ذلك؛ خوفاً من الرياء.

* وهذا سيد الفتيان أيوب بن كيسان المشهور بالسختياني:

 يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.

* وقال عمرو بن ثابت:[ لما مات علي بن الحسين فغسلوه؛ جعلوا ينظرن إلى آثار سواد بظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.

 * وعن محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل.

* وهذا داوود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحد، وكان خزازاً يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق.

* وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنة صائماً، ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدوا إلى الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم، وأهله لا يدرون.

وكان إذا حضرته الرقة، يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام.

·       وقالت سُرّية الربيع بن خثيم: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.

·    وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل يقول عنه تلميذه أبوبكر المروزي: كنت مع أبي عبد الله نحواً من أربعة أشهر، بالعسكر، وكان لا يدع قيام الليل، وقراءات النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يُسر بذلك.

·        وقال محمد بن واسع: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به.

ويقول: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً، يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده، ولا يشعر به الذي جنبه.

* وقال الشافعي: وددت أن الخلق تعلموا هذه – يقصد علمه- على أن لا ينسب إلى حرف منه.

* وقال ابن الجوزي في المدهش صـ 415: اشتهر ابن أدهم ببلد، فقيل: هو في البستان الفلاني، فدخل الناس يطوفون ويقولون: أين إبراهيم بن أدهم؟ فجعل يطوف معهم، ويقول: أين إبراهيم بن أدهم؟!.

فهذا غيض من فيض إخبارهم، ونقطة من بحار عجائبهم، وأعمالهم، وأحوالهم سقتها لعل فيها تذكيراً للغافلين، وشحذاً لهمم الصالحين، وأسوة للمقتدين[12]، وإلى حلقة قادمة – بمشيئة الله تعالى- مع عمل آخر من أعمال القلوب، والحمد لله رب العالمين.


 


[1] – روا ه البخاري ومسلم.

[2] – انظر إغاثة اللهفان لابن القيم.

[3] – رواه مسلم.

[4] – رواه البخاري ومسلم.

[5] – رواه مسلم.

[6] – رواه مسلم.

[7] – رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم(3387).

[8] – رواه مسلم.

[9] – جزء من حيث رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الن ماجة برقم(2480). والظلال(1085).

[10] – انظر صلاح الأمة.

[11] –  صفحات من صبر العلماء على شدائد  العلم والتحصيل لأبي غدة صـ17-18 بتصرف. نقلاً عن صلاح الأمة لسيد عفاني.

[12] – نقلا عن صلاح الأمة لسيد عفاني.