الإيجاز والتطويل في الصلاة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عزيز عليه ما عنتم، حريصاً على هدايتهم، رؤوفاً رحيماً بهم، لا يكلفهم من الأمر عسيراً، ولا يحملهم من المشقة نكراً: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (سورة آل عمران:159)، إذا حمي الوطيس، واختلط الأعداء، وارتعدت فرائص الشجعان؛ فهو صلى الله عليه وسلم الأسد المغوار، والبطل المقدام، والقائل في حومة الوغى:
أنا النبي لا كذب | أنا ابن عبد المطلب |
وإذا ما رأى الضعفاء ونظر إلى الشيوخ والنساء، والأطفال، والمرضى؛ فهو الرحيم بأتباعه، والمتحنن عليهم، والمقدم لهم في المصالح على نفسه، يخفض للمؤمنين جناحه، ويوطئ لهم كنفه، وإذا دعوه لبَّاهم، وإن اتجه بهم إلى الله في العبادة ساعد الضعيف، وانتظر العاجز، وبشر الراغبين، وأنذر الكسالى1.
وإليك – أخي وفقنا الله وإياك لطاعته – حديثين شريفين في رفقه ﷺ بأمته، وشفقته عليهم: الحديث الأول: عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها؛ فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وُجْد أمه من بكائه2.
الحديث الثاني:
عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا صلَّى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف، والسقيم، والكبير، وإذا صلّى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء3.
غريب الحديث:
قوله: وجد أمه حزنها وتألمها لبكائه، وهي شديدة الحب له.
قوله: السقيم المريض.
المعنى الإجمالي: جاءت هذه الشريعة السمحة باليسر والسهولة، وَنَفْي العَنَتِ والحرج، ولهذا فإن النبي ﷺ أمر الإمام في الصلاة التي هي أجل الطاعات بالتخفيف فيها لتتيسر وتسهل على المأمومين، فيخرجوا منها وهم لها راغبون؛ ولأن في المأمومين من لا يطيق التطويل إما لعجزه، أو مرضه، أو حاجته، فإن كان المصلى منفرداً فليطول ما شاء؛ لأنه لا يضر أحداً بذلك.
ومن كراهته ﷺ للتطويل الذي يضر الناس، أو يعوقهم عن أعمالهم، أو يشغل بالهم؛ أنه أمر بتخفيف الصلاة، وحث على ذلك، فإن في الناس الصغير، والكبير، وذوي الحجات.
شرح الحديثين:
هذان الحديثان الشريفان يدلان على رفقه ﷺ بأمته، وينبغي على أئمة المساجد حفظهما، وفهم معناهما؛ لأنهم المقصودون بهما، كما عليهم العمل بهما، ومراعاة أحوال المصلين في المساجد؛ فلا يؤم القوم إلا خيارهم، وأفقههم في دين الله، وأعرفهم بسنة رسول الله ﷺ، وأكثرهم حفظاً لكتاب الله؛ فقد قال رسول الله ﷺ: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، ولا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه4 لأن من كانت هذه صفاته استطاع أن يسلك بالناس الصراط المستقيم.
وكان ﷺ يؤم الرجال والنساء في مسجده الشريف، فيسمع بكاء الطفل؛ فيخفف الصلاة، ويتجوز فيها؛ رحمة به، وشفقة على أمه؛ لأنها إذا سمعت بكاء ابنها انصرف قلبها إليه، واشتغلت به عن استماع القرآن، والخشوع المطلوب في الصلاة، والمرأة ضعيفة القلب، سريعة الانفعال لما يصيب أولادها، إذا بكى طفلها ردد فؤادها صدى بكائه، وإذا تحرك في مهده تحرك في صدرها قلبها لحكمة من الله لولاها لضاع الصغار، وأهمل شأنهم.
ومن هذين الحديثين تعلم حضور النساء المساجد في عهده ﷺ، وأنهن كن يشهدن معه الجمعة والجماعات، ودعوة الخير، فيسمعن خطبه، ويتعلمن منه الدين، إلا أنه ثبت في السنة نهيهن عن الاختلاط المباشر، ومزاحمة الرجال، وخير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وشر صفوف النساء أولها، وخيرها آخرها.
وكان النساء في العصر الأول يذهبن إلى المساجد، ويقعدن من وراء صفوف الرجال وحلقهم، فيسألن، ويعترضن، ويناقشن العلماء، وكل ذلك من وراء حجاب، ومع ذلك التزام الآداب، وربما طلب العلم عليهن، وتردد الأجلاء على أبوابهن للرواية عنهن، وإذا خيفت الفتنة، وظهر الفساد؛ فصلاة المرأة في بيتها أفضل، وأجرها عند الله أعظم، واتقاء الشر أهم من طلب الخير.
وإنما أمر ﷺ الأئمة بتخفيف الصلاة لئلا يشقوا على كبار السن، والمرضى، وذوي الحاجة؛ الذين لم يحضروا الجماعات إلا رغبة في الخير، وحرصاً على مضاعفة الحسنات، مع أن أحدهم قد يعجز عن الوقوف في مصالحه الحيوية لحظات قصيرة، وقد يكون الوقت محسوباً على العمال، وأصحاب الوظائف بالدقيقة والثانية، لهم أشغال كثيرة بعد الصلاة، فيجب مراعاتهم، وعدم التطويل بهم، بحيث لا يخرج الإمام في إسراعه بالصلاة عن آدابها، ولا يخل بشيء من أركانها وشروطها، وفي الحديث أن رجلاً من بني سلمة أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام، ونكون في أعمالنا بالنهار، فينادى بالصلاة فنخرج إليه، فيطول علينا، فقال رسول الله ﷺ: يا معاذ بن جبل لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك5.
وبعض الأئمة – هدانا الله وإياهم – يعلم هذه الأحاديث، ثم يؤولونها بغير المراد منها، فتجده يطول تطويلاً مملاً، ويقول هذا كله دون ما كان يفعله رسول الله ﷺ، ويحتج بقراءته في صلاة المغرب بسورة الأعراف مثلاً، وتلك واقعة لا يحتج بها.
ومنهم من إذا دخل الصلاة طواها طياً، وركض فيها ركض الرهان، فلا سكينة ولا وقار، ولا خشوع ولا اطمئنان، ولو خشع قلبه لاطمأنت جوارحه،؛ يهذّ القرآن هذًا، وينقر في السجود نقر الغراب، وأكثر ما يقع ذلك في صلاة التروايح التي يصلونها عشرين ركعة في أقل من ربع ساعة، ولو صليت ثمان، وأتممت الركوع والسجود؛ لكانت أحب إلى الله، وأوفق للسنة، وما جمع الناس َعمرُ بن الخطاب على أبي بن كعب في صلاة التروايح إلا لحسن قراءته، وعمله بقوله – تبارك وتعالى -: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (سورة الإسراء:79)، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (سورة المزمل:1-4). بعض آداب الإمامة:
للإمامة آداب كثيرة، وأحكام شهيرة في كتب السنة، وفروع الفقه، ولابد من معرفتها، والعمل بها.
فالإمام ضامن ومسؤول، وعليه ما ليس على غيره، يتحمل فاتحة المسبوق، وينتظر الداخل لإدراك الركعة أو الجماعة، بالشروط المعلومة.
ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون لم يقبل الله صلاته، ولا نصيب له من فضيلة الجماعة التي هي رمز الألفة والاتحاد.
وأهم آداب الإمام:
أن يكون حسن السيرة والسلوك، محمود السجية، محتسباً غير فاسق ولا مبتدع، يحب الناس ويحبونه، حسن القراءة، جميل الصوت، نظيف الثياب، طيب الرائحة، عليه من الوقار آية، وهو من العلم في الغاية والنهاية، وحيث كان كذلك فله على الناس حبه واحترامه ومساعدته، وأن لا يؤاخذوه بكل زلة، ولا يعاتبوه عند كل هفوة، وليعلم الذين يتجرؤون على الإمامة، ويحرصون على الوظائف، ولو كان فيها مزلة أقدامهم، وفتنة أحلامهم، أنهم بين يدي الله مسؤولون محاسبون، فليصححوا قراءتهم، وليتعلموا من الفقه ما يحسنون به صلاتهم، ويتجنبوا من بدع الصلاة ومحدثات الأمور في المساجد ما يوقعهم في قول رسول الله ﷺ: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد6، وفي رواية: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
وإن منهم من يجهل أحكام الطهارة، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، ولو بطلت صلاته، أو حدث له شيء وهو في المحراب؛ لاستمر في عمله تكبراً أن يقال فيه شيء، وجهلاً بأحكام الطهارة والاستخلاف، وبعضهم يلحن في القراءة لحناً فاحشاً، ويغلط غلطاً مكفراً لو تعمده وكان عالماً بمعناه، فقد يبدل حرفاً بحرف، ويجعل الحاء هاء، والعين همزة، والقاف غيناً، والضاد ظاء، وهلم جرا؛ وربما حذف حرفاً، أو خفف مشدداً، أو شدد مخففاً، أو مد في غير موضع المد.
أما الأذكار وتغيير صيغتها، وجعل شيء منها مكان شيء؛ فدأب أكثرهم، وقد يكون لهم العذر في جهلهم بذلك.
ولكن ما عذرهم في تغيير القرآن، وعدم تصحيحه!؟ وفي الأثر عن أنس بن مالك قال: “رُبَّ تالٍ للقرآن، والقرآن يلعنه”7. ومن الأئمة – عافاهم الله – من يصم آذان المصلين، ويزعج الواقفين، والعاكفين والركع السجود؛ بالتهاليل، والتسابيح، والرواتب التي قبل الصلاة وبعدها، وقد ورد في الخبر: لا يشغلن قارئكم مصليكم؛ وربما وقف وقال بأعلى صوته: “غفر الله لمن قال: لا إله إلا الله”، فيصبح معه الجمهور ضجيجاً يخالف آداب المساجد، وقول النبي ﷺ : يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً؛ إنما تدعون سميعاً بصيراً8.
ومن كان منهم راتباً في مسجد لزمه المحافظة على الأوقات، وأن لا يترك لمعترض عليه سبيلاً جهد طاقته، ورضاء الناس غاية لا تدرك، وإنما الكمال لله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ9 (سورة النحل:127-128).
اختلاف العلماء في تطويل الصلاة وتقصيرها:
هناك أحاديث صحيحة تصف صلاة النبي ﷺ بالطول، بحيث يكبر فيذهب الذاهب إلى البقيع، ويقضى حاجته، ثم يرجع ويتوضأ يدرك الركعة الأولى مع النبي ﷺ، وبأنه يقرأ في الصلاة المكتوبة بطوال السور كالبقرة، والنساء، والأعراف، ويقرأ بطوال المفصل “ق”، والطور ونحوهما.
وهناك أحاديث صحيحة تحث على التخفيف، منها هذين الحديثين اللذين معنا، وأنه كان يقرأ بـ (قل يا أيها الكافرون) و(الإخلاص) ونحو ذلك، والناس – تبعاً لهذه الأدلة – مختلفون، فمنهم من يرى التطويل عملا بهذه الأحاديث، ومنهم من يرى التخفيف عملاً بما ورد فيها.
والحق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض – ولله الحمد -، وكلها متفقة. ولكن التخفيف والتَّطْوِيل أمران نسبيان، لا يُحَدَّان بِحدّ، لأن الناس في ذلك على بَوْنٍ بعيد.
فالناقرون يرون الصلاة المتوسطة طويلة، وأهل العبادة والطاعة يرونها قصيرة.
فليرجع إلى أحاديث النبي ﷺ، وإلى حال صلاته، ويطبق بعضـها على بعض؛ فيظهر الحق الفاصل، وقد ذكر الصنعاني: أنه ﷺ كان يطيل صلاته لعلمه بحال المؤتمين به، وأن الأمر بتخفيف الصلاة خاص بالأمة10.
قال ابن القيم – رحمه الله -: “الإيجاز والتخفيف المأمور به، والتطويل المنهي عنه؛ لا يمكن أن يرجع فيه إلى عادة طائفة وأهل بلد، وأهل مذهب، ولا إلى شهوة المأمومين ورضاهم، ولا إلى اجتهاد الأئمة الذين يصلون بالناس، ورأيهم في ذلك؛ فإن ذلك لا ينضبط، وتضطرب فيه الآراء والإرادات أعظم اضطراب، ويفسد وضع الصلاة، ويصير مقدارها تبعاً لشهوة الناس، ومثل هذا لا تأتي به شريعة، بل المرجع في ذلك والتحاكم إلى ما كان يفعله ﷺ من شرع الصلاة للأمة، وجاءهم بها من عند الله، وعلمهم حقوقها وحدودها، وهيآتها وأركانها، وكان يصلي وراءه الضعيف، والكبير، والصغير، وذو الحاجة، ولم يكن بالمدينة إمام غيره – صلوات الله وسلامه عليه -، فالذي كان يفعله – صلوات الله عليه وسلامه -: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ11 (سورة هود:88).
بعض الفوائد المستفادة من الحديثين:
1. رحمة النبي ﷺ وشفقته بأمته؛ فهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
2. وجوب تخفيف صلاة الجماعة مع الإتمام والكمال.
3. جواز تطويل صلاة المنفرد ما شاء، وقيد بأن لا يخرج الوقت وهو في الصلاة، وذلك كيلا تصطدم مصلحة المبالغة بالتطويل من أجل كمال الصلاة مع مفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها.
4. وجوب مراعاة العاجزين، وأصحاب الحاجات في الصلاة.
5. أنه لا بأس بإطالة الصلاة، إذا كان عدد المأمومين ينحصر، وآثروا التطويل.
6. أنه ينبغي للإنسان أن يسهل على الناس طريق الخير، ويحببه إليهم، ويرغبهم فيه، لأن هذا من التأليف، ومن الدعاية الحسنة للإسلام12.
والله الموفق، وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1 الإصلاح المجتمع (334). للبيحاني.
2 رواه البخاري.
3 رواه البخاري ومسلم.
4 رواه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري .
5 رواه أحمد.
6 رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
7 إحياء علوم الدين (1 /274).
8 رواه البخاري من حديث أبي موسى .
9 يراجع: إصلاح المجتمع، صـ(334- 337).
10 يراجع: تيسير العلام، باب الإمـامة للعلامة عبد الله البسام.
11 الصلاة وحكم تاركها (194- 195) الناشر: دار ابن حزم – قبرص – بيروت. ط (1) (1416هـ).
12 تيسير العلام للبسام.